رحلة إلى مدريد

 

مصطفى البعليش **

 

عقارب الساعة تدنو بكسل نحو الثانية زوالا. ورجلاي أعلنتا احتجاجهما على حملي.

أخيرا تصل حافلة النقل الدولي. ابني ربيع يضع بين يدي جواز سفري المختوم بتأشيرة شانغن تمتد لستة أشهر، ويُقبل يدي ويهمس في أذني:

- حقيبتك في الحافلة، وهذه حقيبتك اليدوية. هل تحتاجين شيئا آخر.

- رضي الله عنك بني. لا تتخاصم مع أخيك، واهتم بالمنزل. واعتني بأبناء أخيك.

تأكد من قفل الباب جيدا ولا تتركوا المصابيح مشغلة.

تأكد من النوافذ ومن صنابير الماء...

- سأتأكد بنفسي من كل ما ذكرت.

- قل لعلي أن ينتبه لهاتفه. لا أحب أن أرن عليه دون أن يجيبني. حين يفعل يبعث ذاك كل هواجسي. وتخوفاتي لتضايقني وتنغص حياتي.

أصعد نحو مقعدي وأجلس وحدي. تنطلق الحافلة نحو القصر الصغير عبر الطريق السيار. عبر النافذة أودع بلدتي وكلي شوق للرجوع إليها قريبا. أشتاق منذ اللحظة للجلوس بساحة بارادا والحديث مع الحاجة الفاسية. السلام على الحاجة أرحيمو وسؤالها عن إخوتها العربي ومصطفى.. تذكرني دائماً بالآخرين فأنساهم بعد حين. أشتاق لصويحباتي القرويات اللاتي يحضرن لي البقول مطهوا على الأعواد. أشتاق إلى رحمة وخدوج وفطوم وغيثة. لبن غيثة دائما طازج ولذيذ. تنصحني بعدم شرائه إذا ما علا مذاقه بعض الحموضة. تعرف جيدا طلبي وذوقي.

حين ذهبت إلى مكة كنت أتمنى أن أمكث فيها ولا أرجع أبدًا. السكينة والطمأنينة كانت تجمل حياتي بها. حين كان يصلني صوت أبنائي عبر الهاتف المحمول كنت أحزن وأفرح معًا. فهم يذكرونني بأن العودة قدر محتوم. وأن خروجي من الجنة يقترب لحظة بعد أخرى. وأفرح لأخبارهم ولذكرياتي في مدينتي وأهلي وأصحابي.

مرافقاتي في الحج كنَّ يقضين وقتهن في الطبخ والطهو وإعداد الشهيوات. أما أنا فكانت تكفيني شربة ماء من زمزم لأغسل ذنوبي وأشبع عطشي وجوعي وأهيم بذكر الله والصلاة على نبيه. أقف قبالة الكعبة لأتذكر كل تلك المسلسلات عن سيرة خير خلق الله. شريط الرسالة يمر أمام ناظري. ها هو حمزة يقف شامخًا أمام باب الكعبة يعلن إسلامه ويذوذ عن سيدنا محمد رسول الهداية. البشير النذير. تختلط أمام عيني مكة بتازروت وسمعي تغمره أصوات المادحات في الزاوية الريسونية وهن يبشرن الناس بمولد الرسول. الميلود أو المولد النبوي وطقوسه في قريتي كانت تحملني في أجنحتها لأحج وأعمر وأحلي حلقي بذكر النبي والصلاة عليه.

أما اليوم فأنا اتجه إلى مدريد وأنا أعد الوقت متى أعود إلى منزلي.

أنا منذ الآن كلي شوق للرجوع إلى بلدتي. الحافلة تطوي الطريق طيا وها هي تصل إلى ميناء طنجة المتوسطي. أنزل من الحافلة وأسلم جوازي للجمركي متمنية أن يجد فيه سببًا ليرجعني أدراجي إلى داري. أركب الباخرة وأعبر المضيق نحو الضفة الأخرى ولا أصل الجزيرة الخضراء إلا وقد حلَّ الظلام لأركب الحافلة بعد أن أحرقت سفني ومعها أعصابي ودخلت الأندلس كجاسوسة لطارق بن زياد. حافلتنا لا تفرق بين ليل ونهار فعجلاتها تتدحرج على الطريق ولا تستريح إلا في المحطات المخصصة لذلك. أنزل بسرعة فور وقوفها وأتوجه إلى المرحاض أتخلص من زوائدي وأجدد وضوئي وأرجع إلى مقعدي أفتح حقيبتي اليدوية وأخرج منها ما يسد جوعي. تنطلق الحافلة وأبدأ في أداء صلاتي أتبعها بالتسبيح.

الساعة الآن تشير إلى السابعة صباحًا. تقف الحافلة معلنة أننا وصلنا مدريد. أحسني كما لو أنهيت عقوبتي من الأشغال الشاقة. أنزل الدرج فأجد ابني ينتظرني. يحمل الحقيبة اليدوية من يدي ويتبعها بحقيبتي بعد أن تسلمتها من عامل الحافلة. نركب سيارته وننطلق. شوارع مدريد واسعة وبناياتها متميزة. عمارات كبيرة بشرفات جميلة وهندسة معمارية رائعة. تنصرم ساعة فأدخل عقب ابني بيته. يخبرني أنَّ زوجته ذهبت للعمل وأولاده في المدرسة وأن عليه الالتحاق بعمله. يصحبني إلى المطبخ ويريني الدجاج واللحم فوق المائدة ويخبرني أنه اشتاق لطبخي. ويخرج مسرعًا. قبل أن ينفجر بركاني.

أبحث عن وجبة الفطور فلا أجد إلا أواني متسخة على المائدة وأخرى قد تراكمت فوق بعضها عند المغسلة. أفتح الثلاجة فلا أجد فيها مبتغاي. مشروبات غازية وزبدة وشوكلا وشوكلاط ومرتديلا وأنواع لم أتبين ماهيتها. أقفل الثلاجة. أنظف الطاولة وأغسل كأسا وصحنين وأفتح حقيبتي اليدوية أخرج منها ما يسد رمقي. أخرج من المطبخ اكتشف المنزل. صالة واسعة لكنها مقلوب عاليها على سافلها. لا شيء مرتب ملابس هنا وهناك وأحذية تجد فردة ولا تجد لها أختا.

غرفة أخرى فسيحة وسطها طاولة لا يزال فوقها صحون وأكواب تشي بعشاء دسم يذهب النوم عن عيني أيامًا معدودات إن تناولته. شاشة التلفزة لازالت تذيع أخبار الصباح. أصعد السلم فأجد الأبواب مفتوحة... الأغطية لا زالت فوق الأسرة والملابس في كل مكان. الخزانة قد قلعت بابها. مصباح الحمام لا يزال مشغلًا. أطفئه وأترك الصابونة على الأرض والشامبوان منكفئا على المغسلة. أنزل مرة أخرى وأهوي على مقعد أتحسس ما تحتي فأجد مقابض شعر ومشط أبعد كل ما وصلته يداي.

- تريدني أن أشتغل عندك خادمة.. شكرًا يا قطعة كبدي..

- لم ترحني صغيرًا يا كبدي... ولا تجعلني أعيش هانئة يا عمري.. ولن تتركني أموت في هدوء يا.....

 

** كاتب مغربي

تعليق عبر الفيس بوك