د. عبدالله باحجاج
تركزت عملية بحثنا عن الأسباب في بنود عقود الانتفاع نفسها، انطلاقًا من المبدأ القانوني الشهير "العقدُ شريعة المتعاقدين" فلا يمكن أن يلتزم المُزارع بالتزامات قانونية الّا وهو يعلم أنه سينفذها، وإلّا تترتب عليه مُساءلة قانونية وتداعيات كبيرة، وكان الهاجس المُسيطر على عملية البحث في مواد العقود، يدور حول معرفة طبيعة المواد التي يُبنى عليها الرفض المُطلق، والرفض المطلق قد أصدرته الجمعية الزراعية بظفار، بعد نقاشات مستفيضة مع المُزارعين، وخرجوا بموقف جماعي يتمسكون فيه بخيار التمليك عوضًا عن الانتفاع.
فكيف تُركت التطورات لتصل الآن إلى موقفين مُتعارضين، رغم وجود قنوات للحوار بين الأطراف، تتمثل هنا في الجمعية الزراعية بظفار ومكتب تطوير منطقة النجد الزراعية؟
قضية الزراعة في النجد لم تعد محل خلافات، كما كانت منذ بضعة سنوات، وقد تجاوزت أسوأ سيناريوهاتها عندما كادت الجرافات تُدمِّر المزارع، لولا اندلاع أزمة كورونا فجأةً، ولن نجد مسؤولًا مُهمًا أياً كان موقعه إلّا ويقدِّر أهمية الزراعة في النجد، ودور المزارعين المواطنين في المساهمة في الأمن الغذائي؛ مما يجعلنا نضع علامات تعجب كبيرة من بعض مواد عقود الانتفاع التي تضع شروطًا واشتراطات قاسية، تُفقِد المزارعين عنصر الاستقرار والأمان النفسي، وتعامِلَهُم كمستثمرين "جُدد" وبآجال زمنية قصيرة، لا يمكن لأي شخص أن يبني عليها قرارات استراتيجية باطمئنان؛ بل إن بعض المواد تجعل مستقبل المزارعين مجهولًا، وتحت طائلة السلطة الإدارية المطلقة، علمًا بأن أغلبهم مزارعون عاديون، يشتغلون فيها مع أبنائهم لسد احتياجاتهم ورفع مستوى دخلهم، ويجتهدون كثيرًا في رفد أسواقنا المحلية بالفواكه والخضراوات المختلفة، ومن أهم هذه المواد المثيرة للجدل:
- مدة العقد سنتان قابلة للتجديد. فهل هذه الفترة تصنع الاستقرار والأمان؟
- القيمة المالية لعقد الانتفاع 50 ريالًا للفدان حتى 100 فدانٍ، وعقبها تُصبح قيمة ما زاد عن المئة فدان 5 ريالات للفدان، وهذه التسعيرة لن تخدم مزارعي النجد من المواطنين، وإنما الشركات الزراعية الاستثمارية؛ فعندما نأخذ شركة تمتلك أكثر من 2000 فدان، فإننا سنجدها تدفع للفدان قرابة 6 ريالات، وكلما زاد عدد أفدنتها انخفضت الرسوم عليها. أما المواطن المزارع، فسيدفع 5 آلاف ريال سنويًا على 100 فدان، ومنذ يناير بداية كل سنة جديدة! أي مُقدمًا، ولن يتمكنوا من الوفاء بالاستحقاقين المالي والزمني، ولو وقَّعوا على العقد، فسيُدخِلون أنفسهم في مساءلة قانونية وسحب أراضيهم.
- يحق للجهة الحكومية المُشرِفة على هذا الملف مُراجعة مقابل حق الانتفاع كل 5 سنوات، ويحق لها زيادته بنسبة 6%، وهنا حالة جنوح نفعي تنسى أو تتناسى أنها تتعامل مع مواطن مزارع، وليس شركة استثمارية، مع صاحب الأرض يترزق منها مع مجموعة أبنائه.
- غرامة تأخير بواقع 6% سنويًا من إجمالي المبالغ المتأخرة عن مقابل الانتفاع السنوي.
- سداد كافة الرسوم والضرائب الى الجهات الحكومية المختصة عن كافة الأعمال والأنشطة التجارية والأرباح وغير ذلك المعمول بها حاليًا أو تلك التي سيُعمل بها لاحقًا ما لم يحصل على إعفاء من الجهات الحكومية المخولة لذلك، وبذلك هم يحملون المزارعين على التوقيع لمستقبل مجهول، فكيف يوقعون العقود على بياض؟
- تشغيل المواطنين العمانيين في المشروع وفق مقتضيات العقد.
- يُلغى كل ما يُخالف هذا العقد من عقود سابقة مُبرمة بين الطرفين لذات الغرض محل العقد. وهنا مُحاولة لإلغاء التوجيهات السامية للسلطان الراحل قابوس بن سعيد، التي كانت تدعم المزارعين، وكانت سببًا في إدخال التيار الكهربائي للكثير من المزارع وشق الطرق إليها.. وهنا إشارة واضحة إلى إلغاء أعمال اللجنة الوزارية بشأن الحيازات النجدية، والخطابات المتبادلة بين الجهات ذات العلاقة بشأن الإعفاء من مقابل حق الانتفاع للمدد المحددة لنوع المزروعات.
فهل تلكم البنود تشجع المواطن المزارع على توقيع عقود الانتفاع؟ إنها تجرده من كامل حقوقه التي اكتسبها منذ 1983، وتمنحه صفة المستثمر الجديد، وتحمله أعباءً مالية فوق طاقته، وتتجاهل الحقائق الثابتة التالية:
- طبيعة وخصائص الزراعة في صحراء الربع الخالي؛ حيث البرد الشديد والحر الشديد والرياح الشديدة، والجراد العابر والجراد المقيم، والآفات التقليدية المتجددة التي تستنزف الأموال لمكافحتها.
- الخسارة تكتنف المخاوف في كل المواسم للعوامل سالفة الذكر.
- ارتفاع أسعار المُدخَلات الزراعية.
- ارتفاع أسعار فاتورة الكهرباء.
- الدورة الاقتصادية للزراعة في النجد؛ إذ أوجدت مجموعة مصالح لشريحة كبيرة من المواطنين، فهناك باعة لمُدخَلات زراعية، وسائقون، ومسوِّقون، ومستهلكون.. إلخ.
- عدم التفرقة بين مَزارع المواطنين ومزارع الشركات الاستثمارية الكبيرة.
- لم تأتِ العقود لتسوية قضايا زراعية ذات ثقل اجتماعي ومتجذرة تاريخيًا.
من الواضح أن الجهات الحكومية المختصة بهذا الملف لم تستشر حتى الجمعية الزراعية بظفار، لذلك لم نتفاجأ بإجماع رفض العقود، وتمسكهم بالبُعد التاريخي لمزارعهم في قلب الصحراء؛ فتاريخهم هناك يرجع إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي عندما أكملوا مسيرة آبائهم وأجدادهم الذين حفروا الآبار يدويًا في الصحراء، ووضعوا بصماتٍ زراعية فيها، توارثها الأبناء بدافعية استكمال المسيرة وبشعور المغامرة، قياسًا على إمكانياتهم المالية المتواضعة، وقياسًا على صحراء الربع الخالي ذات المناخ الصعب والرمال المتحركة، وبُعدها عن الأسواق كثيرًا، وكانوا سببًا في انكشاف إمكانيات النجد الزراعية للشركات الكبيرة، وقدموا للسوق العماني اكتفاءً ذاتيًا في الكثير من الفواكه والخضراوات، والآن يؤسسون تاريخًا في إنتاج القمح.
من هنا.. فإنَّ أي عقود بين المزارعين والجهات الحكومية ينبغي أن تراعي الواقع والتاريخ من جهة، وتفرِّق بين مزارع المواطنين ومزارع الشركات الاستثمارية الكبيرة، بحيث يُفترض أن تكون العقود تنظيمية ومساعِدة على استمرارية نجاح مبادراتهم الزراعية. وآخر ما ينبغي التفكير فيه هو الرسوم؛ فكل مُزارع عُماني يُثبِت وجوده في الصحراء ينبغي أن تُفتح له كامل التسهيلات والتشجيع؛ لأن الأهداف الاستراتيجية من ذلك أعظم، وتتجسد في تقليص الفجوة في الأمن الغذائي وزيادة الدخل على المستوى الوطني، خاصةً وأن الزراعة في النجد قد فتحت مصادر رزق كثيرة مباشرة وغير مباشرة، والكل يعلم المخاوف من مستقبل نقص الغذاء، ويعلمون كذلك الحتمية الوطنية المتعددة في الإنتاج المحلي والاستقرار الاجتماعي.
إنهم يعلمون كذلك أن ثمة حاجة وطنية في الحفاظ على فئة المزارعين الصغار، لدواعي عدم احتكار شركات الاستثمار الزراعية للأسعار، والتخفيف من مخاطر فشل استثماراتها؛ سواءً لعوامل جيوسياسية أو استثمارية، وقد أثبتت مَزارع المواطنين في النجد أنه ينبغي الرهان عليها، ففيها مزارعون ثبّتوا أقدامهم في الصحراء، وتحوّل لون بشرتهم إلى لون الصحراء في تحدٍ يصنع الإعجاز لسلة غذائنا.
إنَّنا نُطالب بحوارٍ جادٍ يقوده مكتب تطوير منطقة النجد مع الجمعية الزراعية بظفار، وتُرفع نتائجه لمكتب محافظ ظفار ووزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه ووزارة الإسكان والتخطيط العمراني؛ فالمكتب لم يُفعَّل حتى الآن بالطموح المأمول، وهو المُناط به تطوير منطقة النجد الزراعية، وإعداد خارطة استثمارية متكاملة للمناطق النجدية الواعدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ومهمته كذلك توزيع الأراضي الزراعية الاستثمارية.. لذلك امنحوا الاختصاص للجهات المؤسسية المختصة، ونحن على يقين أنها قادرة على حل كل المشاكل.. أما التفكير الفوقي في تحديد الرسوم ووضع الشروط؛ فمآلاته ستكون الرفض المطلق.
هناك مُقترح مُعتبر من شخصية بارزة في الجمعية الزراعية بظفار يقضي بتمليك المئة فدان الأولى، ومن ثم فرض رسوم 5 ريالات على ما يزيد بعد ذلك بصورة تصاعدية، وهذا حقُ كل مُزارعٍ جادٍ وما أكثرهم، وينبغي أن يُمنحوا حقًا مُستدامًا- طويل الأجل للزراعة ومعفيٍ من رسوم الانتفاع ومن بقية الرسوم والضرائب؛ تشجيعًا لنجاحهم في زراعة الصحراء التي لا تقارن بأي منطقة زراعية أخرى؛ بل على العكس، نجد مَزارع تُملَّك واراضٍ شاسعة تُشرْعَن لواضعي اليد عليها، مثل سهل صلالة ومناطق أخرى! بينما يتم التعامل مع المواطنين في الصحراء بسياسة تمييزية مختلفة، وهم الأحق بالاعتبار والاعتداد والتقدير؛ لأنهم أحيوا الصحراء الميتة وعمّروا أراضٍ شاسعة فيها، ويمنحونا الاطمئنان على سلة غذائنا، والمصلحة الوطنية تحتِّم الثنائية المزدوجة: "التمليك والرسوم"، وهو الحل الأنسب لمجموع المصالح في البلاد.