الفقير.. والمُفقَر!

 

محمد بن رضا اللواتي

mohammed@alroya.net

 

ما أسهل على قواميس اللغة أن تُقدم لنا الفارق بين الكلمتين "الفقير والمُفقر"؟

لكِنَّ رجلين- بحسب تتبعي المتواضع- تمكنا من نقل الفروق الموجودة بين الكلمتين إلى مضمار عملهما بشكل مُذهل للغاية، أحدهما يُدعى محمد بن يونس البنغلاديشي صاحب مشروع "بنك أفقر الفقراء"، الذي حقق إنجازًا قلَّ نظيره، هذا إن كان له نظير فعلًا! فلقد تمكن من تحويل الأعمال المنزلية الصغيرة إلى عمود فقري للاقتصاد البنغلاديشي. والآخر يُدعى محمد بن إبراهيم الشيرازي صاحب مشروع "الحكمة المُتعالية"، والذي حقق إنجازًا قلَّ نظيره أيضًا، هذا إن كان له نظير فعلًا! فلقد تمكن من حل أُحجية سبب احتياج الأشياء إلى مُسبب غني، وسبب استغناء هذا السبب الغني عن الاحتياج، مانحًا للفلسفة الطاقة المطلوبة للاستمرار في الإجابة عن أسئلة الوجود الكُبرى بعد مرحلة الجمود والحيرة.

الأول انتبه إلى أنَّ الفقراء في الواقع ليسوا كذلك، وإنما فقدان العدالة الاجتماعية وتفكير اقتصادي غير سليم أنتج هذا العوز المالي الذي يعانون منه.

وبعبارة دقيقة: الفقراء ليسوا كذلك، وإنما هم "مُفقَرون" وأن النظام الرأسمالي العالمي يمضي نحو إنتاج مزيد من أعداد "المُفقرين" وتكريس الفقر فيهم. إن المصارف الرأسمالية وبيوت التمويل بعدم منحها القروض التنموية للفقراء تساهم في زيادة أعداد "المُفقرين"، وتفوت على الاقتصاد فرصة الاستفادة القصوى من طاقة إنتاجية معطلة.

والثاني انتبه إلى أنَّ ظاهرة الفقر والحاجة التي نشهدها في كل كائن حولنا وفي هذا العالم برمته، ليست أجنبية أو مُضافة من الخارج على ذوات كائنات العالم، وإنما تنبع من أعماقها، فطبيعة العالم فقر ذاتي إلى الغير الغني، وعوز وجودي يغدو مؤشرا صارخا على وجود الغني بالذات الذي يسد احتياج كائنات هذا العالم بدفق من الوجود بشكل مُستمر وفي كل آن، وأن الحيرة التي انتابت بيوت الفلسفة الكبيرة في العالم وعلى رأسها أمثال "هيجل" و"سارتر" و"راسل" والتي أعجزتهم عن حل مسائل السببية راجعة إلى عدم اعتنائهم بالوجود والتحقيق فيه بدرجة كافية.

سبحان الله!

الأول ناظر إلى الفقر اجتماعيًا، فيجده مضافا على الفقراء من دون وجه حق، وبالتالي ينبغي العمل على زحزحته، والآخر ناظر إلى الفقر وجودًا، فيراه مبدأ ذاتيا في صميم كيان العالم، وينبغي عدّهُ آية ومظهرا وتجلياً للموجد الغني بالذات.

وما يهمنا في هذا المقال هو النوع الأول.

فعندما أنهى دراسته وعاد إلى بنغلاديش ليمارس التدريس، تساءل عن جدوى هذا التعليم في الوقت الذي يترنح البلد تحت ثقل المجاعة!

وبعد الدوران في حقول القرية والجلوس مع الفقراء لمعرفة منشأ فقرهم هذا، توصل إلى أنَّ الائتمان حق إنساني تماما مثل التعليم والصحة والمسكن والملبس والمنزل، وهو السبب الرئيس الذي يقف خلف دوران عجلة الفقر في القرية.

ألهمته شابة فقيرة وأم لأطفال ثلاثة تُدعى "صوفيا بيغم" بحلول للأزمة، فهي وغيرها من الأسر المُنتجة تعاني من عدم وجود ائتمان تستند عليه لبيع منتجاتها من الخيزران، ما يدعوها إلى الاقتراض بنسبة ربوية عالية.

ولكن المصارف ترفض منح القروض للفقراء، لأنهم لا يمتلكون ما يضمن للمصرف أمواله التي أقرضها لهم، ما جعله يخطو نحو مشروع أوجد انقلابا في المفاهيم الاقتصادية السائدة.

لقد كان أمامه عمل مُضنٍ يتمثل أولًا في تغيير ثقافة القرويين الفقراء، وعندما نجح في ذلك، أسس مصرفًا لأفقر الفقراء عام 1983م، بلغ رأس مال المصرف الجديد من مدخرات القرويين بحلول عام 1988، نحو 12 مليون دولار.

ركز "يونس" على النساء الريفيات الفقيرات والمنتجات في الوقت نفسه، فجعل منهن عضوات مجلس إدارة المصرف الجديد، وأضحى الفقراء يمتلكون 92% من أسهمه، وحوّلَ مفهوم البحث عن الوظيفة إلى التوظيف الذاتي، مغيرا مفهوم الصدقة والإحسان إلى الائتمان ليجد الاقتصاد المحلي دفقًا من الطاقة التنموية يسري في البلاد.

تروي محركات البحث الإلكتروني عدة قصص للدور التنموي لعبه "مصرف جارمين"- أي مصرف القرية- في حياة الفقراء، من ذلك قصة الفتاة البائسة "جوريمون" التي كان عليها أن تعمل في الحقول وهي صغيرة، وتعيش على الصدقات، تزوجت في العاشرة من عمرها بفقير، لتجد أنَّ الحياة رمتها على أعتاب ثري تعمل لديه مع زوجها كخادم وخادمة، إلا أنها وعندما حصلت على أول قرض لها من "مصرف القرية" اشتغلت لنفسها بائعة للأزر المُقشّر، وإذا بها تتمكن من ادخار أموال! وحصلت على قرض آخر لتشتري به بقرة بينما ظلت تمارس مهنة بيع الأرز، تمكنت بذلك من تسجيل أطفالها في المدارس لتلقي العلم، إذ لم تعد في حاجة لهم ليُساعدوها في المنزل، إلى أن خرجت من دائرة الاحتياج نهائيًا. إنها ممتنة لله الذي فتح لها طريق السعادة بقرض تنموي قائم على رؤية مختلفة.

بالطبع فعوائد الامتنان تشمل "يونس" بالتأكيد.

هذه كانت قصة واحدة، وإلا فمجموع الفقراء الذين استفادوا من ذلك المصرف يصل عددهم إلى مليونين من 36 ألف قرية!

بالمناسبة، فقد زار "يونس" سلطنة عُمان بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام، ربما عام 2006، وتحدث عن تجربته هذه، ولكن ماذا بعد ذلك؟ سؤال ربما غيري يعرف الإجابة عنه!