صندوق مجلس الشورى.. رحلة الشتاء والصيف

 

علي بن سالم كفيتان

إنها حكاية لا تنتهي.. حكايتنا مع ذلك الصندوق المسجى في قاعة الدرس وعليه طوابير من المراقبين الذين يعلقون على رقابهم تمائم اللجان التي تمنحك الشعور بالشفافية والنزاهة، ليس عليك سوى أن تعبُر ذلك الرواق الطويل وتقف شاخصًا أمام باب الصف المعد للاقتراع تدخل ولديك ما يثبت أنك أنت، وبعد أن يتفحص الموظف شخصك يمنحك ورقة العبور إلى الديمقراطية مزينة بصور المرشحين، وما عليك سوى أن تمنح علامة "صح" لأحدهم في تلك الغرفة المعزولة بقماش حريري، يأخذ اللون الأحمر، ولا أدري لماذا اختاروا الأحمر لغرفة العزلة الديمقراطية تلك، وما أن تنتهي وتقذف بالورقة في الصندوق، تكون قد قيدت خيارك وحبسته في ذلك المربع الشفاف، وكلك أمل أن يفوز من حظي بثقتك.

كانت هذه هي الصورة مع بدايات الشورى في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث مُنح الشيوخ والأعيان والتجار والمثقفون حق الترشيح فحسب، بينما ظل الباقون ينتظرون خيار هذه النخبة وفي الغالب كانت مخرجات هذه الفترة غير مسبوقة؛ فالكل كان يتحرى من يستطيع الكلام مع الحكومة بندية وثقة وغالبًا ما يصل رجال لهم ثقلهم الاجتماعي والمهني المشهود لهم فيُبلون بلاء حسنا لما ينفع البلاد والعباد.

لتأتي مرحلة جديدة يغذّيها فكر مختلف مع بداية الألفية الجديدة من خلال تمكين القبلية وحشد الأصوات لإظهار الأحمال الاجتماعية، فكانت مرحلة استعراض قوى من خلال من يستطيع حشد أكبر قدر من الأصوات للصندوق العتيد، مهما كانت قدرات المرشح، وفي الغالب يقدم الأشخاص المعسرين للاستفادة من راتب الشورى في قضاء ديونهم وتسوية أوضاعهم المعيشية خلال الدورة التشريعية، ولا يمنع أن يمنح دورة ثانية وثالثة حتى تستقيم أوضاعه. هنا برز هدفان للعملية الانتخابية في تلك المرحلة؛ وهما: استعراض المكوِّن القبلي ومعالجة الوضع المالي للمرشّح دون انتظار فوائد تُرتجى منه لولايته أو بلده، وعدد كبير من هؤلاء دخلوا المجلس وخرجوا منه دون إلقاء سؤال أو مداخلة أو المشاركة برأي أو فكرة! ولا شك انخفض الأداء وأصبح المجلس مجرد محطة لمن دُفع بهم إليه، يعملون على تسيير الجلسة تلو الأخرى متأبطين خناجرهم ومتمترسين خلف أسمائهم لكي يشعر ناخبوهم أنهم ما زالوا على قيد الحياة.

في المرحلة التي تلت 2011، تعالت أصوات المجتمع لاختيار الكفاءات وحصرَتْهُم غالبًا فيمن لديه شهادات عليا؛ فكانت تلك هي "موضة" تلك الفترة، ودُفِع بكفاءات أكاديمية ومهنية ولكنها جميعًا كانت تمر عبر نفس الرواق (القبلي)، وهنا نحن لسنا ضد الحاضنة القبلية للديمقراطية؛ فهذا هو المتاح، في ظل غياب أي حاضن آخر؛ إذ تظل القبيلة هي المؤسسة الوحيدة المُعترف بها والموكل لها رسم ديمقراطيتنا الحديثة، ولهذا كان على الأطباء والأكاديميين والمهندسين والمحامين وغيرهم من المهنيين الراغبين في العبور إلى المجلس، متابعة الرواق الضامن لآلاف الأصوات دون عناء؛ حيث يكفي أن تسمع الجموع شيلة حماسية يغزلها شاعر مخضرم ويمررها الجمهور في مواقع التواصل الاجتماعي وتطير بها الركبان في كل الأنحاء، لتنهال الأصوات من كل حدب وصوب ويتصدر المرشح المشهد لليلة واحدة، وبعدها عينك ما تشوف إلا النور!

والسؤال: هل مجلس الشورى يمتلك الاختصاصات الكافية لأداء دوره كما ينبغي؟

في الحقيقة لم تتطور الاختصاصات بالشكل المؤمل مع تطور المرحلة؛ بل تراجع بعضها وتعطل الآخر، ومن هنا لم تعد العضوية جاذبة لأصحاب رؤوس الأموال لبلوغها أو حتى الانفاق أو الدعم لتمرير أعضاء قد يرعون المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى أو حتى العابرة للقارات؛ فالمجلس بات محدودًا في مهامه، ومجرد ممر لبعض ما يُسمح له بالاطلاع عليه، وفي الغالب تكون أمور إجرائية بحتة تحمل أهدافًا إعلامية لإبراز أن هناك مشاركة اجتماعية في الشأن العام، ويظل جل حديثنا عن الأمور الإجرائية كالتصويت الإلكتروني وسلاسة التصويت وحجم المشاركة.

إن تركيز رؤية "عُمان 2040" على المجالين الاقتصادي والاجتماعي يؤثر بالتبعية على المسار الشورَويّ، في الوقت الذي كان ينظر فيه المتفائلون حضورًا أوسع لمجلس الشورى في الحياة العامة، من خلال منحه صلاحيات استجواب فاعلة للوزراء، وانتخاب رؤساء البلديات والمحافظين بالاقتراع المباشر، واستبعاد مصطلح الوزارات السيادية التي لا يُسمح للمجلس بمناقشة وزرائها.

وحفظ الله بلادي.