يُركِّز المنظور الاقتصادي لأي قطاع أو منطقة جغرافية؛ محافظةً كانت أو ولايةً، في المقام الأول على ما تزخر به من مزايا نسبية، والتعرُّف على مكامن القوة والفرص المُتاحة فيها، ومن ثمَّ الوقوف على الطلب الإقليمي والعالمي، وهذا النهج يُمثِّل الخيار الأمثل لإعادة توجيه الاقتصاد الوطني نحو مسارات الاستدامة، من خلال التركيز على الإنتاج والخدمات.
وفي القلب من قطاعنا السياحي الواعد، تلمع ولاية الجبل الأخضر باعتبارها دُرَّةً مكنونةً في اللآلئ الفريدة للعقد العُماني الآسِر؛ فهذه الولاية السامقة تُمثِّل أجمل المرتفعات في منطقة الخليج قاطبةً، وليس عُمان وحسب؛ إذ ترتفع عن سطح البحر بنحو 3000 متر، وتمتاز بطبيعة خلابة وطقس معتدل على مدار العام، كما تتميز بتشكيلة رائعة من أجمل التضاريس والتكوينات الطبوغرافية. ولا يخفى أن الحراك الاقتصادي والتحولات النوعية المنشودة في المرحلة المُقبلة تُوجِب تبنِّي فكرٍ تنمويٍ جديدٍ مُنفتح، وتنفيذ أفكار مبنية على الاستفادة من المزايا النسبية. ويبقى الحديث عن المزايا النسبية لعُمان من أقصاها الى أقصاها شيء، وتعظيم الاستفادة منها وجعلها واقعاً يتلمسه الجميع شيء آخر. توليفة المزايا النسبية للجبل الأخضر تفرض نفسها لكونه هبةً ربانية وثروة وطنية، ليس فقط في الجانب السياحي والزراعي، وإنما في الجانب الرياضي والاستشفائي، خاصة ونحن جزء من منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، التي أصبحت ترى في الرياضة مجالًا واسعًا للنمو، وتحتاج بذلك إلى معسكرات ومُخيّمات للتدريب والتهيئة البدنية بشكل مستمر، إلى جانب إقامة فعاليات ودورات ومباريات طوال العام، بينما أجواء الطقس في دول الخليج في معظم أوقات السنة غير ملائمة لارتفاع درجات الحرارة. وبالتوازي مع الاهتمام بالقطاع الرياضي في المنطقة، ينتعش قطاع الطب الرياضي والتأهيل من إصابات الملاعب، وأصبح وجود مستشفيات مُتخصصة في هذا الغرض أو لغيره أمرًا مطلوبًا، ويحتاج إلى بيئة خاصة؛ كتلك التي يتمتع بها حصرًا الجبل الأخضر.
وبالحديث مع المختصين في الشأن الرياضي، فإن الجبل الأخضر يُمثِّل موقعًا ووجهة مثالية لرياضات المغامرات المختلفة، وألعاب القوى والرياضات الشاقة، خاصة وأن هذا النوع من الرياضات يحظى باهتمام عالمي وإقليمي كبيرين، وتغطيات إعلامية واسعة، يمكن على إثرها وضع اسم عُمان على الساحة العالمية لجذب المزيد من المستثمرين والسياح والمؤسسات والأكاديميات الرياضية المرموقة، وخلق حراك اقتصادي ينعكس على الاقتصاد الوطني والقاطنين في الجبل الأخضر.
وبالنظر إلى المزايا النسبية للجبل الأخضر نجد في المقدمة اعتدال درجة الحرارة وارتفاعه عن سطح الأرض، ونقاوة الأجواء وانعدام الضوضاء تقريبًا، والانخفاض النسبي في ضغط الهواء، وبيئة نقية خالية من التلوث، وتضاريس متنوعة، إضافة إلى ميزة القرب الجغرافي من العاصمة مسقط. ومع تزايد الطلب السياحي وغير السياحي على تلك الأجواء الطبيعية القريبة من المنطقة، تظهر الحاجة إلى بناء تجمُّع اقتصادي رياضي علاجي "كلاستر" يتضمن بناء مجمعات رياضية ومستشفيات متخصصة وفق أفضل المعايير، مع توظيف الكوادر البشرية المؤهلة، وضرورة الاستثمار في إيجاد البنية الأساسية والمرافق الضرورية المُكمِّلة ليكون الجبل الأخضر محركًا للنمو ومصدرًا للوظائف والحصول على العملة الأجنبية، وجذب الاستثمارات، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وغيرها الكثير من الفوائد الاقتصادية التي يُمكن جنيُها.
كل ما سبق يستوجب ضرورة النظر إلى مزايا الجبل الأخضر كغيره من المناطق في السلطنة التي تنعم بمزايا نسبية مُتفرِّدة من منظور استراتيجي مُختلف، يتناسب مع تطلعات عُمان للمرحلة المُقبِلة، وتعظيم الاستفادة منها والأخذ بالأسباب والتحلي بالمرونة الضرورية؛ فالسكون في ظل بيئة إقليمية وعالمية ديناميكية أمر يُجانبه الصواب، والدفع بمُبررات نقص الموارد المالية في ظل تعطش الاستثمارات العالمية والخليجية لفرص استثمارية بمزايا نسبية كالتي يوفرها الجبل الأخضر، هي مُبررات غير صحيحة، خاصة أنه يُمكننا تأطيرها في قالبٍ مناسبٍ وعرضها كأحد الفرص الاستثمارية، لا سيما وأن عُمان ستستضيف الاجتماع السنوي للمنتدى الدولي لصناديق الثروة السيادية، والمقرر إقامته في الربع الأخير من العام 2024، وهو الاجتماع الدوري الذي يجمع متخذي القرار ممثلي صناديق سيادية عملاقة تمتلك القرار الاستثماري في نحو 80 تريليون دولار. ومن جانب آخر تمثل هواجس الخصوصية والاستراتيجية والوطنية للجبل الأخضر، دافعًا وليس معطلًا لازدهار وانتعاش الحياة في هذه الولاية الجميلة.
إنَّنا في عُمان أمام استحقاقات اقتصادية مُهِمة لتعزيز الحوار بين الجميع، وتحريك عجلات الاقتصاد في مسارات جديدة، غير تلك التي اعتاد عليها في مسارات النفط والغاز؛ إذ ما زالت هناك قاطرات نمو لا تعمل بشكل جيد، وهناك استغلال جزئي للعديد من المزايا والموارد الوطنية.
لذلك فإنَّ تفعيل فلسفة التجمعات الاقتصادية للولايات والمحافظات حسب مزاياها النسبية وتفعيل التوجه الاستراتيجي الخاص باللامركزية والتنمية الإقليمية للمناطق، أمرٌ لا مناص منه، والتنفيذ على أرض الواقع بعد الحديث والتخطيط، ضرورة مُلحّة لصناعة المستقبل.
وختامًا نؤكد أنَّ إنجاح مثل هذه التوجهات الاستراتيجية لن يتأتَّى دون فلسفة جديدة توجِد إطارًا واضحًا يسمح بتركيز الجهود والموارد وإيجاد الحلول التمويلية لتوفير البنية الأساسية والبيئة المُحفِّزة وحشد الهمم في اتجاه واحد، يتبنى نموذجًا يُضيف منافعَ للأهالي والمجتمع المحلي، ويمتاز بفكر ابتكاري وقدرة على المنافسة وخلق منافع متبادلة بين الجميع، ويخلق شراكة وتكاملا بين القطاعين العام والخاص؛ سواءً المحلي أو الأجنبي.