التوازن الاجتماعي العام.. واقعه ومآلاته

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يحاجج البعض بحسابات مالية خالصة لصناعة التوازن المالي من خلال خطة التوازن المالي (2021- 2024) ويبررون بها استمراريتها؛ بل يؤسِّسون المُستقبل على مداها الزمني المتوسط، فإنَّ حجتنا مقابل حجتهم، هي الحاجة العاجلة الآن لإعادة التوازن الاجتماعي العام، ودراسة دور خطة التوازن المالي وما يصاحبها من سياسات وقوانين في الإخلال بالتوازن الاجتماعي؛ فبهذا الإخلال يتأسس المستقبل الاجتماعي، ومآلاته حتى الآن الأعباء الفردية والجماعية التي تتزايد الآن داخل المنطقة الاجتماعية، والتي كشفت عن تغيُّرٍ في مفهوم التوازن الاجتماعي بثنائيته: المالية والمعنوية؛ مما ينبغي علينا توقع مختلف السيناريوهات.

المتأمل في المسارات الجديدة، وتداعياتها سيرى حجم التأثير الذي أحدثته في التوازن العام للمجتمع، فماذا نتوقع من الضرائب والرسوم على الخدمات الحكومية وإجراءات التقاعد والتسريح والباحثين عن عمل والرهانات على قطاع خاص محدود وحد أدنى للأجور عند 325 ريالًا، وزيادة أعداد المدارس الخاصة والدولية، ورغم أن هذا النوع من التعليم في حد ذاته يضمن لمخرجاته جودة التعليم ومثله جودة الوظائف، إلّا أنه ليس بمقدور الكثيرين دفع تكاليفه، ما قد يتسبب في تباينات واضحة في المخرجات التعليمية.

تلكم مجرد أمثلة ترسم لنا سيناريو عن تداعيات اختلال التوازن الاجتماعي، وربما نرى مشاهد متصاعدة ومتعددة داخل المنطقة الاجتماعية، ستتلون وتتشكل في حقبة فتح البلاد على الاستثمارات الأجنبية وعلى الديموغرافيا المتعددة الجنسيات بعد حالة إغلاق لمدة أكثر من خمسين سنة، وهذا ما يدفع بنا إلى المطالبة بالثنائية المتقابلة والمتلازمة؛ وهي أن التوازن المالي ينبغي أن يُقابله الآن التوازن الاجتماعي، وينبغي أن يسيران على نفس الأهمية السياسية دون إفراط أو جنوح أحدهما على الآخر، كما كان للتوازن المالي قبل عامين وحتى الآن، ولا نبالغ إذا ما قلنا إنَّ الأولوية حاليًا يجب أن تكون للتوازن الاجتماعي العام، وإن هناك عدة عوامل تجعلنا نطالب به وبصورة عاجلة؛ لسببين أساسيين هما:

1- كون السكان يشكلون ركنًا من أهم أركان الدولة (كما ذكرنا في مقال سابق) وعلى السياسة المالية للدولة أن تُحافظ على تقويته، مع عدم السماح بضعفه.

2- وجود عوامل جديدة تحتِّم استعادة التوازن الاجتماعي العام، وقد تناولنا في مقالات سابقة حجم الإيرادات الجديدة والمستقبلية المُستدامة التي تجعل من السُلطة التنفيذية الحكومية تعمل عاجلًا على إعادة مفهومها للتوازن المالي الذي مثّل في جزء منه جنوحًا على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، ممَّا تسبَّب في تأثُّر هذه التوازنات الاجتماعية والاقتصادية؛ لأنها تُركِّز على البُعد المالي بصورة شبه مجرّدة، قد نتفهَّم- مع بعض التحفظات- الأسباب التي دفعت ببلادنا نحو صياغة خطة التوازن المالي (2021-2024)؛ وهي مالية خالصة في ظل اندلاع أزمتي تراجع أسعار النفط وكورونا.

ولعل الحديث عن زيادة في صادرات النفط العماني إلى أوروبا، يساعد على تعزيز نجاح استعادة التوازن الاجتماعي العام دون القلق من المستقبل، فهذه الزيادة تتوفر لها الاستدامة؛ كون النفط الخام العماني في الجودة المماثلة للنفط الروسي، وبهذا تجد أوروبا ضالتها في جودة النفط العُماني، وبلادنا جهة مصدرة مضمونة؛ سواءً من حيث استقرارها السياسي وعلاقاتها الإقليمية والدولية، أو من حيث تموقع موانئها على بحار مفتوحة وبعيدة عن مناطق التوترات والصراعات.

وهنا التساؤل: لماذا لم نشهد انعكاسات للنتائج الإيجابية في المالية العامة، على الواقع الاجتماعي؟ وكيف نترك الشكاوى الفردية والجماعية تزيد، وبلادنا تزخر بالخيرات المتعددة القديمة والمتجددة؟ من هنا نطالب- بإلحاح- بالإسراع في عودة التوازن الاجتماعي لدواعي أوضحنا بعضها سابقًا، وأخرى سياسية بامتياز طرحناها في إحدى تغريداتنا عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا) في شكل تساؤلات عاجلة، نرى من الأهمية تكرار بعضها مع تطويرها لخدمة قضية عودة التوازن الاجتماعي، وهي: إلى أي مدى يُمكن التعويل على البعد الدولي كعامل استقرار داخلي وإقليمي، والدول الكبرى نفسها غير ضامنة لاستقرارها وديمومتها؟

هنا دعوة إلى إعمال التفكير في حقبتنا الراهنة بكل خياراتها الاستراتيجية بما فيها المالية، وأي عملية تفكير عميقة سنخرج منها بنتيجة واحدة، وهي حتمية عودة التوازن الاجتماعي العام وعاجلًا، وما أوضحناه سابقًا من عوامل قديمة وحديثة ومتجددة؛ كمصادر للدخل، تحتِّم التفكير في استعادة التوازن الاجتماعي، وهي تُبدد كل حجج أنصار التوازن المالي؛ فطبيعة بلادنا ذات الثقل الاجتماعي لن يصلح فيها مفهوم التوازن المالي وحده، وإنما الجمع بين التوازنات المالية والاجتماعية والاقتصادية.

التوازن المالي في ميزانية الدولة لن يتحقق في ظل مصروفات متنامية وإيرادات محدودة للوزارات الخدمية، وقطاع خاص متواضع لا يُمكن أن يستوعب أعداد الباحثين عن عمل، ومن ثم لا ينبغي أن يُشكِّل الشغل الشاغل للدولة، ما دامت هناك تنمية ذات ثقل اجتماعي، وما دامت هناك خطط واستراتيجيات وطنية كبرى، وإنما الشغل الشاغل يكمُن في إيجاد مصادر للدخل جديدة ومتجددة، وقد نجحت الحكومة في ذلك، وهي مطالبة فيه بصورة واسعة وشاملة؛ فالتلويح بمفهوم التوازن المالي ربما لدواعي تشريع الضرائب وفرض رسوم على الخدمات الحكومية.

ومثل ما خرجت العقول بسياسة التوازن المالي نتيجة إكراهات أزمتي النفط وكورونا، فينبغي الخروج الآن بسياسة إعادة التوازن الاجتماعي نتيجة مجموعة من الاختلالات الاجتماعية، ودون ذلك، كيف ستواجه بلادنا تحديات عدم استقرار الأوضاع الإقليمية والدولية في ضوء ما طرحناه سابقًا، ومضامينها التي نستهدفها حصريًا قد أجمعت عليها مراكز الدراسات العالمية، فليس هناك ثابت دولي أو إقليمي حتى يُمكن البناء عليه بسياسات ثابتة، لذلك.. إنَّ خيار إعادة التوازن الاجتماعي العام بنظام عصري يأخذ بعين الاعتبار سلبيات الإنفاق الماضية ويمنع الانزلاقات نحو الفقر.. هو الثابت المُقدَّس دائمًا.