الازدواجية وغياب المركزيَّة!

 

د. صالح الفهدي

أسفتُ وأنا أتصفَّحُ ملفَّ المشروع السياحي الذي بعثهُ لي أَحد الذين استقطبوا مستثمرين لإِقامته في أحد المواقع المعروفةِ وغير المستغلَّة سياحيًّا واقتصاديًا، وسبَبُ ذلك الأَسفُ الذي خالجني هو توقفُّ المشروع بسبب الإِزدواجية في موافقات الجهات الحكومية على مثل هذه المشاريع؛ حيثُ يبدو الأَمر أشبهُ بأَنفاقٍ ما إِن يخرج صاحبُ المشروع من أحدها حتى يتفاجأْ بالآخر أشدَّ ظلمةً ومعاناة!

طالعتُ الملف ومحتوياته، وقرأتُ إضافاته المتوقعة للسياحة والاقتصاد، فإذا به يوفِّر نحو 10 آلاف وظيفة لأبناءِ البلد، وبه الكثير مما يجذبُ السيَّاح من أصقاعِ العالم من مدن الألعاب، وفنادق، ومتاجر ومقاهٍ عالمية، ووسائل الترفيه، والاسترخاء، بطريقة حديثة، لا تنقصها الأناقة ولا حداثة المعمار، علاوةً على ذلك إنشاء المستثمر لكليةٍ يقدِّمها هديَّةً منه! فإِذا بهذا كلُّه يضيعُ بجرَّة قلمٍ تقول "لا" فتهدِّم مشروعًا عملاقًا، وتنسف جهودًا دؤوبةً، طويلة الأمد، وتلغي طموحاتٍ، وتضيِّع فرصًا.

الإِزدواجية بين الجهات الحكومية في إصدار التراخيص هي ازدواجية في أصلها راجعةٌ إلى أساس هيكلي؛ فالرؤية التي يترسَّمها الوطنُ واضحة الاتجاه، إنما الإِستراتيجية العملية رهن تفسيرات وتأويلات وقرارات لا تتوائم مع أُسس المنهجية العملية الواضحة التي تنصُّ عليها الرؤية وإلَّا ما معنى أن تعطي وزارة مسؤولة كوزارة السياحة الموافقات على إِقامة مشروع ثم تأتي وزارة أُخرى لتعترض على ذلك بعد صدور الموافقات ودراسات الجدوى؟! كيف تصدرُ الموافقات وهي منقوصة إذن، ولماذا يُعْهَدُ على المستثمر أن يجري وحده من أجل إنهاء إجراءاته؟ ألا يجب أن نقولَ للمستثمر: استرح أنتَ ونحن سنأتيك بكل ما تحتاجُ إليه من موافقات وتراخيص؟ ألسنا نحنُ من يحتاج إلى المشاريع الاستثمارية التي ترفدُ الاقتصاد، وتعزِّز السياحة، وتوفِّر فرص العمل لأبناء البلد؟ إذن أين الجهة التي تعدُّ مرجعًا لهذا كلُّه، وتمتلك الصلاحيات النافذة، والقرارات العملية فلا يعترضُ عليها معترض، ولا يوقف تراخيصها أحد؟

المشروع الكبير الذي اطلعتُ عليه رُصدت له ميزانية ضخمة تفوق الثمانية مليارات دولار أمريكي! فهل يتم التفريط بمشروع بهذه الموازنة الضخمة؟! ومثله العديد من المشاريع التي ضاعت وتضيعُ يومًا بعد يوم؛ لأَن الجهة التي تتولاها ليست مركزية، فهي لا تملك كافة الصلاحيات التي تخوِّلها من إصدار التراخيص النهائية لهذه المشاريع، وإنما تتنصَّل منها وتطلب من المستثمرين أن يواجهوا هذه الإزدواجيات بأنفسهم حتى يدب اليأَس في قلوبهم، وتخور هممهم فيقرروا الرحيل تاركين وراءهم ملفات مشاريع كانت ستضيف إلى الوطن مكتسبات لا حصر لها.

أُذكِّر هُنا بأمرين؛ الأَوَّل: أَن جلالة السلطان المفدى- حفظه الله- قد أصدر مرسومين مهمَّين يعالجان عِلَّة "الإِزدواجية" بين المؤسسات الحكومية، وذلك منذ ما يقارب العامين، قضى المرسوم الأول بإنشاء وحدة مستقلة تتبع جلالة السلطان لقياس أداء المؤسسات الحكومية وضمان استمرارية تقييمها واقتراح آليات رفع كفاءتها، مع قياس جودة الخدمات ورضا المستفيدين منها. بينما قضى المرسوم الثاني بإنشاء هيئة عليا مهمتها مراقبة تحقيق الأهداف والإستراتيجيات الوطنية في الجهات الحكومية، لكنَّ هاتين المؤسستين لم تظهرا للنور بعد، ولا شكَّ أنه سيكون لهما- عند عملهما- دورٌ كبير في تنظيم العمل الحكومي، وتوحيد الإجراءات، ومعالجة الإزدواجيات، والتخلص من البيروقراطية المتجذِّرة.

أما الأمر الآخر فيتمثل في المبادرة الرائدة "استثمر في عُمان"؛ وهي عبارةٌ عن صالةٍ، حديثة الطراز، تستقبلُ المستثمرين في محطةٍ واحدةٍ لإنجاز ما يتعلَّق باستثماراتهم، وإنني إذ أُعوِّل عليها لتكون حلَّا للإزدواجية بميزتها المركزية؛ فإِنني أدعو إلى أن تُمنح الصلاحيات الواسعة، والقرارات النافذة في تسريع الإجراءات، وتخليص التراخيص، ودفع الإستثمارات نحو الإنجاز بأسرعِ ما يمكن.

أعودُ إلى مشاعر الأَسف التي شعرتُ بها أثناء تصفُّحي لملف المشروع، فأقول إن الأمرَ نابع من حبي لهذا الوطن، وحرصي على أن لا يُضيِّعَ أيّة فرصة سانحة في سبيل نمائه وتطوره واستثمار ما وهبه الله من مقدرات ومكتسبات وطبيعة.

إِنَّ الطريق الأَصوب إلى كسبَ المشاريع الإستثمارية هو "مركزية القرار" بحيث تكون هناك مؤسسة نافذة (على سبيل المثال: المكتب الإستراتيجي في المملكة العربية السعودية، والمكتب التنفيذي في إمارة دُبي) تملك صلاحيات عُليا باعتبارها المسؤولة الشاملة عن المشاريع الاستثمارية، فإِنْ وافقت على مشروعٍ من المشاريع لا يحق لأية جهةٍ أن تعترضَ عليها، فالمؤسسات الأُخرى (الوزارات والهيئات وغيرها) هي جهات تنفيذية، وبهذه المركزية تختفي معضلة الإِزدواجية، وتتلاشى التعقيدات، ويجذبُ الوطن الإستثمارات، ويصنعُ الوظائف لأبنائه، ويحرِّك عجلة الاقتصاد.