فلسفة الأبديّة!

 

فاطمة الحارثية

 

إن خرجت عن الدائرة التي أحطَّ نفسك بها، ثم تأملت كل شيء من حولك، وبعدها تأملت قيمتك الحقيقية، كذات ونفس ووجود، دون رأي مرتجى من آخر، فقط قيم نفسك بصدق، فهل ما تفعله لنفسك سواء العلم الذي تتزود به، أو الطعام الذي تستقوي به، أو العلاقات التي تعيش عليها وبها، تقودك إلى السلام؟ جميعنا يبحث عن الفهم والحلول وحتى الابتكار، لكن في الغالب أسباب البحث الحقيقة مُبطنة، ونختار ألا نراها، أو نفسرها بطريقتنا.

فمثلا أنا أعلم أنني أبحث عن الفهم، لازداد استسلامًا ويقينًا بقضاء الله وحكمه، وأعلم أنني أبحث عن الحلول، لأقول لربي يوم الحشر إنني حاولت وسعيت، رغم جهلي بما سوف يأتي أثناء وبعد تطبيق الحلول، ومن نفس الباب تفسيري لكثير من الأمور، وإقدامي أو إحجامي لها أسباب قد لا تتفق معها أو حتى تدرك بُعدها، ولست وحيدة في هذا، لكن يبقى الغرض عند الكثير منَّا مختلفا، كباحث ومفسر لإشباع الغرائز أو الشهوات، أكانت سلطة أو طرق لنيل مراد، أو طموح، وليس ثمة خطأ في ذلك.

في الحياة القصيرة يرى البعض الكثير من الأمور على أنها أبدية، ولن أجادلهم في ذلك، فهم يرونها بمقياس حياتهم المحدودة، ثم يتمتمون، وليكن الله في عون من هم بعدنا، وهنا مكمن التحدي؛ فقياسهم بأبدية الأمور لأنفسهم قد يقود إلى سوء الاستخدام، وكأن حالهم "لأستمتع بكل شيء وأبديتي الدنيوية ومن بعدي لا أكترث فأنا لن أكون حاضرًا".  الصراع المرهق من أجل الاستحواذ، والفهم المغالط من أجل تحقيق مصالح خاصة، وكأننا في صراع رغم أن الأرزاق قد وزعت والحظوظ قد كتبت والحكم قائم، نجد هذا الفكر يأتي بما يشتهي من معتقدات وأحكام وكأنه باق ولن يغادر ولسان الحال يتدبر قول: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك".

الذات ليست معقدة كما يصفها الكثير من الناس، والعوائق نتائج وليست البدايات، انهكنا أنفسنا في بحث مضنٍ للصغائر، وتركنا عمق المعاني ولذة الحياة وجمالها، راقبنا لنهدم واجتهدنا في التسلق على الغير بدل الإنجاز، تفاخرنا بسرقة جهد الآخرين، ونسبنا لأنفسنا ما لا طاقة لنا به، دون اكتراث لاستدامة الأمور وإعطاء المساحة ومشاركة المستحق حتى يستمر العطاء، فالحكمة ونحن جميعًا نتفق عليها ليست بالوصل؛ بل بالبقاء، والبقاء يتحقق بالشراكة، وبالتالي يجب علينا أن لا نغدر بمن ساهم ومنحنا فرصة الوصول، ولا من عمل معنا لنصل، لأنَّ العاقل يُدرك أن الحاجة مستمرة لنبقى في القمة، وإن خُنا وشوهنا أو استبدلنا لن نجد ذات الجودة أو البصمة، وربما نتعرض لسقوط مدوٍ، فيا طالب الازدياد والحالم بالعلا، تدثر بالحكمة والطموح الجماعي وفكر الشراكة، واترك الأنانية والفتن حتى تبقى وتستمر.

 

فلسفة الأبدية، لم يستطع المؤرخون قيد تاريخها، فحتى آدم عليه السلام، كانت رغبة الخلود خطيئته، وإلى يومنا ما زلنا لا نتعلم من أخطاء من سبقونا، ونحكم على من يُفترض أن يُكملنا على أنه ناقص دون وعي أننا لسنا الكمال، نستثمر في غير محله، ونبحث ونطالب بالمتميزين والمبتكرين وغيرها من المهارات، وعندما نجد التميز والاختلاف بعد جهد مضنٍ من البحث نحاول هدمه، ونجتهد ليشبهنا، بحجة أنه لا يفهم، أو لا يعلم، أو وجوب تأهيله أو تطويره أو إعادة برمجة فكره، كأن تساوي الفهم وتشابه الفكر فريضة، فكيف سوف نتطور؟ فلنتعلم كيف نعامل المهرة والمبدعين، ونقاوم الرغبة في أن يشبهونا حتى نصنع جمالا حقيقيا وعملا مبدعا ومتكاملا وأداء مستداماً.

*****

سمو...

القيمة الحقيقة في أن لا نضيع ولا نناقض؛ بل اليقين بأن الحياة تمتد إلى ما بعد الموت، نُحب لكن لا أحد يستطيع أن يُجزم أن ذات التفاعل يتكرر عند الجميع، لذلك احترام الآخر واجب وإن كان غريبًا أو مختلفًا.