د. صالح الفهدي
جلس أمامي أربعة مدراء طلب منهم مسؤولهم أن يجلسوا إلي لأمرٍ من الأمور، فلما انتهوا من حديثهم، سألتهم: بعد أنْ رفض الطلب من يعوض ما دفعناه لأجل دراسة الجدوى باللغتين العربية والإنجليزية؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت لهم: آما كان أفضل لو أنكم زرتم الموقع قبل أن تقدموا قائمةً طويلةً من الشروط، وبعد تلبيتها، وزيارتكم للموقع، ترفضون الطلب بحجة أنه غير مناسب؟! قالوا: نعم، كلامك صحيح، لم نفكر في هذا! قلت: هناك ملحوظة أخرى وهي إن كنتم تبتسمون، ووجوهكم بشوشةً، فإن موظفيكم على عكسكم تمامًا فهم كالحو الوجوه، مقطبو القسمات!، وملحوظة ثالثة وهي أن مفتشيكم يظنون أن صاحب المصلحة ذليل، ليس لوقته قيمة، فيربطونه بموعدٍ باكرٍ في الصباح ليقضي نهار يومه في انتظارهم دون فعل شيءٍ حتى يأتوه آخر الظهيرة حتى لا يعودوا إلى مكاتبهم بعد الموعد!.
يبدو أن داء التعقيد قد ضرب بجذوره في كثيرٍ من المؤسسات الحكومية، والخاصة أيضًا، والسبب هو الثقافة السائدة التي لا تريد اقتلاع جذور التعقيد المتأصلة في أعماقها كجذور شجرة الدمس (الكويتي) التي يصعب اجتثاثها بعد تركها تتعمق وتتفشى وتتلوى!
أقول إن السبب في التعقيد يعود إلى الثقافة السائدة لأنها هي التي تصنع الجو العام، وتحدد السلوك، وتوجه الأداء، ويقف وراء الثقافة السائدة رئيس الوحدة، فإذا كان الرئيس داعمًا لتبسيط إجراءات العمل، ومسهِّلًا لقضاء المصالح، لأنه يمتلك رؤية بعيدة، ونظرةً شاملة أساسها تسريع وتيرة التنمية، وجذب الإستثمار، ونماء الوطن. أما إن كان الرئيس ينحو إلى التعقيد، والبيروقراطية في قضاء المصالح، وعدم التفويض، فذلك يدل على أنه يمتلك نظرة ضيقةً، وقلقًا على المنصب، وعدم ثقةٍ في قدراته، وهذا أبعد ما يكون عن القيادة.
ولنا أن نستغرب ونحن في عام الذكاء الإصطناعي كيف يمكن أن تتعطل أنظمة لأيامٍ طويلة، تتراكم فيها معاملات، وتتأخر فيها مصالح، فالذي يتأخر ليس فردًا، ولا إجراءً إنما يتأخر وطن بأكمله، فلو أننا قيمنا تلك التعطيلات ماديًا لخرجنا بمبلغٍ ضخمٍ يتكبده الوطن، ولو أننا حسبنا المدد الزمنية لمجموع تلك التأخيرات لخرجنا بمدى زمني شاسع يدفع الوطن قيمته الباهظة، لهذا فإنه لا مسوغ لأي عطل ولا لأي تأخيرٍ.
في إحدى البلدان الخليجية توقف التيار الكهربائي في أحد المستشفيات لمدة (10) ثوانٍ، فاشتغل المولد الإحتياطي تلقائيًا، لكن تم استدعاء المدير العام والمستشار في الديوان الملكي (وهو راوي القصة) في اليوم التالي إلى الديوان الملكي وقيل لهم: "لقد علمنا بتوقف التيار الكهربائي عن المستشفى لـ(10) ثوانٍ بالأمس، قالوا نعم وعمل المولد الكهربائي، فقيل لهم: تم استدعاؤكم حتى لا يحدث العطل مرةً أخرى ولتتفادوا أي عطل في المستقبل".
كان الهدف في اعتقادي هو إيصال رسالةٍ للمسؤولين عن المستشفى والطاقة بأن هناك من يراقب، ويسائل؛ فالعشر ثوانٍ يمكن أن تكون عشر ساعات، والعشر الساعات يمكن أن تكون عشرة أيام، إن لم يتم إيقاف الخطأ في حينه، وتفعيل المساءلة عن التقصير على الفور.
لنا أن نستغرب كيف يمكن أن تتوقف معاملة بسبب إجازة موظف، ونحن في عصر التقنيات التي لا تترك عذرًا لأحدٍ في تعطيلٍ، ولا تأخيرٍ، ولا تسويف.
لنا أن نستغرب كيف يمكن أن يخالف كل متأخرٍ عن تجديد ترخيصٍ أو تصريحٍ، أو عقدٍ دون تردد ولا شفقة، في حين تتأخر تلك الجهات التي تخالفه عن قضاء المعاملات أشهرًا وسنوات دون أن تساءل عن أسبابٍ تأخيرها، وتعطيلها!
إذا كانت النباتات الطفيلية كالحامول والهالوك تعيق الأشجار النافعة من نموها الطبيعي، فإن التعقيد المتمثل في ازدواجية الإجراءات، وكثرة الشروط، وجمود العقول، وعسر القوانين، والتأجيل والتسويف والتأخير تعيق نماء وطنٍ بحاله، ولا يمكن أن يتحرر منه إلا بإرادة نافذةٍ، وقرارٍ حازمٍ، وأدوات حديثةٍ، ومتابعةٍ مستمرة ذات همة لا تقعدها الوهن والتقاعس.
أعلم أنني تحدثت كثيرًا عن التعقيد ولكني أدرك أن الوطن هو ضحية هذا التعقيد، فكم من مشاريع توقفت، ومستثمرين غادروا، ورواد أعمال تركوا الأعمال لغير رجعة، وأدرك في المقابل أن حل كل ذلك سهل ويسير وقد أسلفت الإشارة إليه ليعييه أصحاب العقول الوازنة، والإرادات الحكيمة.