ما قيمة "س"؟

 

سعيدة بنت أحمد البرعمي

 

 

كثيراً ما سمعتُ المثل: "العقل السليم في الجسم السليم" والدلالة هنا واضحة وليست بحاجة لشرح منّي، وأيضا المثل القائل: "حَمَسْ  كَنْ عِيَرْ فَلَهْ مِشيرَدْ" أيّ بمعنى خذ العبرة أو الفكرة من أعمى أو من مجنون؛ بمعنى أنّ الأعمى يرى بعقله ما لا يراه الآخرون، والمجنون لديه القدرة في بعض الأحيان أن يأتي بما لا يستطيع العاقل أن يأتي به، ربما لتجرده من كل القيود التي قد تقيّد الشخص العاقل أو لأنه من خلال جنونه يتعاطى نشاطا فكريا وإبداعيا لا يستطيع ممارسته الإنسان العاقل العادي، وهذا المثل في لغتنا الشحرية يتوافق مع المثل العربي"خذوا الحكمة من أفواه المجانين".

في رأيي أنَّ العقل السليم هو العقل العادي الموجود لدى أيّ شخص سواء كان جسده سليماً أو غير ذلك؛ فقد خبِرتُ من الناس من يتمتعون بأجسام رياضية وصحية ولياقة بدنية لا يتعدّى تفكيرهم اللحظة، وأعني بتفكير اللحظة ما يشعر به أو ما يراه ويهتم به للحظة، وهذا تفكير سطحي يتقبل المألوف ولا يحاول التفكير خارجه، بعكس البعض ممن قد تكون اهتماماتهم الرياضية والصحية بسيطة؛ بينما قدراتهم العقلية نشيطة ويتعاطون باستمرار مع النشاط الفكري والإبداعي، هذا ليس تقليلاً من الرياضيين إنما هي إشارة إلى أنَّ هذا النوع من العقل لدى الجميع عدا المفكرين والمجانين.

كما إنني أعتقد أن العقل يسقم، وأنه في حالات سقمه تتوسع رؤيته ويصل إلى ما لا يفكر فيه قبل إصابته بالسقم؛ فيبتعد عن المدارات القريبة ويسبح في مدارات الرؤية غير المرئية، ويأتي بما يأتي به المجنون؛ لذلك ينعت بالمجنون.  

كُنّا نثابر لإيجاد قيمة "س" أثناء مراحلنا الدراسية المختلفة وما زلنا نعين أبناءنا الطلبة على البحث عن القيمة ذاتها، لم يكن الفضول المعرفي الدافع الحقيقي للوصول للحل بقدر ما أن الأمر إلزامي؛ فقد فرض "س" نفسه في المعادلات والحدوديات ومعظم المسائل الحسابية واقترن التفوق في المادة بمعرفة حلّ كافة مسائلها بما فيها الباحثة عن قيمة "س"، كنت أظن حينها أن البحث عن قيمة "س" يقتصر على المسائل الحسابية؛ لكنّي لاحظت الكثير من السينات تدور حول نفسها في دوّامة فلك الضياع في حالة من الإخفاق والنفاق والزّيف تخفي حقائق ما في مختلف جوانب الحياة، الاجتماعية والسياسية الاقتصادية والتعليمية والصحية والأدبية والثقافية، وفي الحروب العبثية وفي الإنسان ذاته، جميعها سابحة في فلك المجهول فاقدة قيمتها.

نجح العرب في التوصل لقيمة "س" في الرياضيات دون غيرها من الأمور، وفشلنا في إيجاد قيمتها حين قبلنا بأن فلسطين قضية تُواري خلفها ملامح الوطن، ورضخنا حين فرض علينا برنامج النفط مقابل الغذاء، وتغيرنا حين انسلخنا عن جلودنا لندخل في جلود غيرنا سعيا للتطّوّر، وفقدنا إنسانيتنا حين تناحرنا لاختلاف المذاهب والأديان، وهُدِمنا حين قبلنا بمناهج تعليمية ندرك ما بها من مثالب، وكُبّلنا حين علمنا حقيقة "كوفيد-19" بعد عامين من انتشاره ولم نبحث عن "س" الكائنة خلفه، وأصُبنا بالأمراض العقلية والاضطرابات الفكرية حين تبهّرج الكاتب وتعثّرت الثقافة وطبّل الشاعر، وافترقنا حين اجتمعنا على طاولة ظاهرها التآخي وباطنها مائدة الجشع، وهُزمنا حين رفعتْ القوى العالمية شعارات العدالة والسلام بيد وقرعت طبول الطمع والحرب باليد الأخرى، ومُتنا حين أوهمنا أنفسنا أننا نعمل بينما نحن ننام أكثر من أن نصحى، كلّ هذه الحقائق كانت "س" المحرّك الأساسي لوجودها.

لو سألنا أنفسنا ما قيمة "س" الكائنة فينا؟

ورقة وقلم ومحاولة جادة للاستعانة بالمُعطيات من حولنا وتفكير عميق في الحل وربما يتطلب الأمر اللجوء الاحتياجي والاستعانة بصديق ناضج ومستقل بفكره، وقد نواجه صعوبة في العثور على صديق بهذه المواصفات؛ بسبب الاغتراب النفسي والفكري وما يحيط بنا من التشابه، وكلما اقتربنا من الحل أو القيمة المطلوبة نخاف أن نجهر بها وتشتعل الورقة احتجاجًا ونتوقف عن إسالة الفكر على الورقة ونعمد إلى تمزيقها وكمشها مصاحبة بنفس ساخط وحركات همجية لا تليق بمفكر، ورميها على الأرض ثم نضحك باستهزاء، ونقوم مجددًا بركل الورقة المُنهكة بالأسفل ورمي القلم، بعدها نلجأ للغش بدلًا من التفكير، ونكذب وننافق ونهاتر، وربما نعاهد النفس ألاّ نفكّر ونعِد بقية الأوراق ألاّ نكتب الأفكار، ونُعادي من يبحث أو يفكر ونوهمه أن القيمة تكمن في البحث عن أن أنفسنا في عيون الآخرين؛ فنفقد قيمتنا ونحتفظ بالقيمة المضافة.

وعندما نسترق النظر للورقة المكموشة بالأسفل تشاغبنا بعض الكلمات التي ما زالت تحتفظ بقوة بروزها في تجاعيد الورقة؛ بالرغم من اختفاء بعض حروفها مثل: "فكرة، صدفة، سبب، جن، وجود، أديان، الإنسان، إضافة إلى سِنْتيْن من الحرف س". فيعود الكاتب لنفسه متسائلا لِمَ أنا هُنا ولماذا أتيت وماذا فعلت وهل أنا راضٍ وإن لم أكن راضيا فلِمَ، وماذا لو لم أكنْ من الأساس، وماذا لو كانت جميع الإجابات "س"، هل هناك من يتوصل إلى قيمتي؟

ربما كتبتُ هذا المقال تحت تأثير حالة من السقم العقلي أدخلتني بدورها في نوبة من الجنون؛ أوقعتني في شباك هذا السؤال الطويل المشاكس الباحث عن نور، الذي يحمل في حروفه الجنون ويستحضر "س" التائهة منذ عصور ويحشرها في الجماجم وسرعان ما يتوب!