القطيع لم يلد بعد.. (من سنن الرعي)

علي بن سالم كفيتان

تمرَّغ الثور في أكوام الطين وبيوت النمل يدكها دكًا بمطرقة رأسه الصلبة، ويشتتها بقرونه القوية في كل الأنحاء، بات وجهه خليطًا من ألوان الأرض، يثوي بصوته المبحوح بشكل هستيري لينبئ أنه ما زال الذكر المُسيطر صهيله المتتالي، وانبثاقُ الدخان من فمه مألوفًا لدى القطيع، رغم صولاته وجولاته على أكوام الطين وبقايا حشرات النمل الملتحفة من برد المطر بدفء التراب.. لن تكون هناك مواليد جديدة لأنه بات مشغولًا بتفريق أكوام الطين ليخلد ذكراه عليها، ولا يعلم أن كل واحدة من تلك البيوت الواهنة عبارة عن بقايا شجرة معمرة أكلها الزمن وفتتها تلك الحشرات الصغيرة لتصنع منها بيتًا يقودها لسراديب العمق المظلم؛ حيث الدفء والمؤونة في أوقات المطر والريح.

من يُخبِر الثور العجوز أن سلالته باتت في خطر، وأن القطيع لن يلد هذا العام؟ إنها مُهمة عصية لا ينبري لها إلّا ثور آخر وهيهات هيهات أن تلد الأبقار مثله، لقد فَقَدَ السمع منذ زمن، وبات يعتمد على عينيه الجاحظتين لفهم كل ما يدور حوله، وبات خواره المُنهك منبهًا للعاملين في الحقول كل مساء بأن النهار قد أزف وحانت ساعة العودة للقرى، ينام الى جانب الموقد في حظيرته المرفّهة لينعم بالدخان الكثيف الذي يُبعد عنه الذباب المزعج في مثل هذه الأوقات من السنة، وعندما يصحو من سباته العميق تخبره البعوضة أن الأمور تسير على خير ما يرام وأن القطيع يدين له بالولاء التام، ما عدا العجول المتمردة التي وُلدت منذ أعوام ولم يتم إخراجها لترعى مع بقية القطيع.

بات حديث الثور هو حوار الساعة بين الرعاة في القرية، وكيف له الاستمرار مع كل هذا الخمول، الجميع في سبلة العصر أدلى بدلوه في الأمر؛ فحكيم القرية قال: إنه من سلالة عريقة ووجوده في القرية بات جزءًا من تراثها. واستطرد قائلًا: "كيف لنا أن نستغني عن صوته الجهوري وخطواته الواثقة"، وانهمك الجميع في ذكر محاسن هذه السلالة، وتفرد ذكورها بقيادة القطيع الى بر السلامة في مختلف الحقب والعصور، كل ذلك قادهم للإبقاء عليه والتصدي لثورة العجول المتحفزة لبلوغ المراعي الخضراء والفضاءات الواسعة والرحبة في الخارج.

هناك مثل يتداوله الرعاة باستمرار في البراري وهو "إذا حملت تلد: ثور أو عجل"، لكن يبدو أنهم هذه المرة باتوا على يقين من عدم قدوم مولود جديد على عكس فلسفتهم التي تقوم على الكثرة من أجل مواجهة الجوائح، وهي فلسفة تقود للإكثار تحت وطأة الخوف من الأوبئة التي تصيب القطعان، فتبيد معظمها وأضيف إليها هاجسًا يقوم على عدم الوثوق بالقائم، مهما كان جميلًا وحالمًا؛ ففي نظرهم هو زائل لا محالة، وستعود الحياة إلى بدائيتها مرة أخرى، فبدل السيارة والطائرة سيركب الإنسان الأنعام مرة أخرى، وسيسكن الكهوف وسيشرب من النبع، مستخدمًا قربته الجلدية التي رماها منذ نصف قرن، فقد باتوا يشمتون في المؤمنين بالحداثة والمنخرطين في أتون المدنية التي أعادت الإنسان لمربع الشمس والريح وقوة الماء.

دعونا نحلم بولادات جديدة بعيدًا عن أفكار الرعاة المتشائمين.. دعونا نطلق العجول المحبوسة منذ سنين إلى المراعي لتتقاسم الماء والكلأ مع قطعان أصحاب دكة العصر.. دعونا نحلم بموت رحيم لثور القرية العجوز.. دعونا نحلم بعودة الحياة إلى صفائها وبهائها وعدلها الفطري ... ستجدد الدماء وتتلاشى السلالات، وستنتخب الطبيعة أجيالًا قادرة على الصمود وابتكار الحلول، مثلما فعل الأجداد الذين قهروا صعوباتهم، وأصبحوا أبطالًا في عالم الأحفاد، ستكتشفون أنهم يتخطون كل الصعوبات ويجدون الحلول لكل التحديات.. اتركوا الحياة تجلدهم والأيام تصقل أفكارهم، سيذهبون للعدم، ويصنعون الكمال، فقط امنحوهم الفرصة، ولا تفكروا نيابة عنهم، ولا تحرسوا أحلامهم بترسانة محاذيركم التي تحمي مصالحكم وتئد طموحاتهم!

ساد صمت عميق كل الأرجاء وبات الرعاة على موعد مع حفل تأبين الذكر المسيطر الى الأبد لقد اتخذوا القرار بإزاحته من رأس الهرم بمخطط بسيط وفكر قديم، لم يكن المخططون الاستراتيجيون في القرية يضعون له حسابًا، فطويت الأسطورة، والأمهات ستلد مُجددًا، ولن تتوقف عجلة الزمن... سيحتفل الرعاة بانتصارهم، على الموقد مع معزوفة الخلود لرزيم الإبل وصوت راعي الغنم القادم من بعيد، يدعو قطيعه للاستمتاع بالرعي الوفير مجددًا.