اقتصاد المعرفة.. نحو تنمية مستدامة شاملة (4)

 

د. إبراهيم بن عبدالله الرحبي **

ibrahim1alrahbi@gmail.com

 

رؤية "عُمان 2040" نموذجًا

ثانيًا: مرتكز التعليم والتدريب

أشرنا في المقال السابق (الجزء الثالث من هذه السلسلة) إلى أهمية مرتكز الكفاءة الحكومية والحوافز في تحديد وتوجيه ودعم مُمكنات اقتصاد المعرفة؛ كونه البوصلة التي توجه هذه المنظومة، وهو ما كان واضحًا ضمن الأولويات الوطنية في محوري الكفاءة الحكومية والقيادة والإدارة الاقتصادية ضمن رؤية "عُمان 2040"، وأوضحنا كذلك جاهزية عُمان في مؤشرات هذا المرتكز والمستهدفات بحلول عام 2030.

واستكمالا للمرتكزات الأربعة الممكنة لاقتصاد معرفي ناجح في سلطنة عُمان وتكاملًا مع هذه المرتكزات، نعرِّج في هذا الجزء على المرتكز الثاني من حيث التسلسل والأهمية وهو مرتكز التعليم والتدريب.

لا شك أن التعليم والتدريب يشكلان الأهمية الأكبر بالنسبة لجميع الدول من أجل تحقيق مخرجات تعليمية فعالة ومنتجة، بمقدورها الاستجابة بنجاح لاحتياجاتها التنموية. وتكمن أهمية التعليم والتدريب للعنصر البشري كبرهان على تنامي الطلب على المهارات، بما في ذلك العمل الجماعي والمهارات العقلية، والتعلم مدى الحياة من أجل التكيف مع التغير المستمر لمتطلبات الأعمال التجارية جراء التقدم التكنولوجي المتسارع. وعلاوة على ذلك، فإن أثر تراكم المعارف على الإنتاجية يؤكد على أهمية النظم التعليمية الملائمة، والتي تمتد آثارها الإيجابية على المجتمع بوجه عام؛ ذلك أن التعليم يمثل بناءً متسلسلًا ومنطقيًا نحو خلق الثقافة الابتكارية الفعالة، التي تشكل عنصرًا حاسمًا في نجاح الاقتصاديات الحديثة. ويعود ذلك إلى الأهمية المتزايدة لتدفق المنظومة المعرفية بين الأفراد، والشركات والمنظمات.

وقد أثبتت الدراسات التجريبية أن النجاح في إنتاج المعرفة يٌقلل من تكاليف البحث والتطوير، ويسرع عملية الابتكار من خلال المساهمة في اكتشاف المعارف الجديدة والتكنولوجيات وتطبيقها ونشرها. وتعزز تقارير منظمة العمل الدولية أهمية التعليم؛ حيث تشير إلى أن إضافة عام واحد فقط لسنوات التعليم يؤدي إلى ارتفاع بنسبة 5 في المائة إلى 15 في المائة في إنتاجية القوى العاملة. وكذلك الحال بالنسبة للشركات فإن الدراسات تشير أيضًا إلى أن سنة إضافية من التعليم يحفز دخل الشركات في البلدان النامية بمعدل 5,5 في المائة. وتعد مرحلة التعليم العالي والتدريب التقني والمهني أكثر أهمية في المراحل المتقدمة من اقتصاد المعرفة الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على القوى العاملة الماهرة وشبه الماهرة. وتُقدِّر منظمة التعاون والتنمية أن أكثر من 60 في المائة من الإنتاج في بلدان منظمة التعاون والتنمية يحققه العاملون في مجال المهارات المعرفية أو الذين لديهم مؤهلات علمية عالية. وعلاوة على ذلك تبين الدراسات التجريبية أن هناك علاقة إيجابية بين القوى العاملة الماهرة وذات التعليم العالي والنمو الاقتصادي. ووفقًا لمنظمة التعاون والتنمية، فإن خريجي الجامعات في معظم دول المنظمة يحققون دخلًا أعلى، ويحصلون على فرص وظيفية بسهولة أكبر، مقارنة مع الأفراد الذين لم يكن لديهم تعليم جامعي، وقد انعكست هذه المزايا بصورة إيجابية على النمو الاقتصادي العام. وبالتالي فإن مخاوف آثار التزاحم على الوظائف جراء ازدياد عدد خريجي التعليم العالي والذي يفترض زيادة عدد الباحثين عن عمل، كما يقول بعض صناع السياسات، تبدو غير واقعية وغير صحيحة في ظل النمو الاقتصادي الطبيعي. وبناء على ذلك فإنه يمكن القول أن أهمية تطوير التعليم لا تقتصر فقط على تحسين نوعية القوى العاملة والإنتاجية، والثبات في الوظيفة، وإنما أيضا كمصدر للرضى في الحياة إذ إن الناس بحاجة إلى وظيفة في مجتمعاتهم تتسم بالفائدة والثبات.

ويمكن اختيار مؤشرات التعليم والتدريب من منظمة اليونسكو ومؤشر التنافسية العالمية وفقا لمتطلبات إستراتيجيات الدول التعليمية والتنموية ومؤشراتها التنافسية. فبينما نجد دولا تتجه إلى تنمية نظم التعليم الأساسية كرفع معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، ومعدل الإلتحاق بالمدارس الثانوية، ومعدل الالتحاق بالجامعات لتكوين قواعد راسخة وناجحة كما هو الحال في بعض الدول النامية الطامحة للدخول إلى اقتصاد المعرفة، نجد دولًا أخرى متقدمة تركز على مجالات التعليم العالي والبحث والابتكار لتعزيز ميزاتها ومؤشراتها التنافسية العالمية.

وبالنسبة لسلطنة عُمان، فإننا نجد أنها حققت معدلات متقدمة ومرضية تعدت 100% و98% على التوالي، في مؤشري الإلمام بالقراءة والكتابة والالتحاق بالتعليم الثانوي. أما التعليم العالي، فإنَّ مؤشر سلطنة عُمان المتعلق بالالتحاق بالتعليم الجامعي يعد جيدًا؛ حيث وصل 48% في عام 2022 وهو قريب جدًا من المتوسط العالمي البالغ 52%. إلّا أن الطموح للوصول لأهداف رؤية "عُمان 2040" في هذا المؤشر يتطلب جهدًا مضاعفًا على كافة المستويات الاستثمارية والتقنية والجودة للوصول إلى مستوى الدول المتقدمة الذي يتعدى حاليًا 80% في المتوسط. وقد شددت رؤية "عُمان 2040" على مرتكز التعليم الشامل ضمن منظومة التعلم مدى الحياة لبناء مهارات المستقبل وتعزيز البحث العلمي وبناء القدرات الوطنية. وصولا إلى مجتمع إنسانه مبدع، ومبتكر، ومنافس عالميا لعبور التحديات الراهنة ومواكبة المتغيرات الإقليمية والعالمية وإستثمار الفرص وتوليد الجديد منها.

ومن المهم بالنسبة للبلدان النامية- لا سيما الصغيرة منها- أن تطوير التعليم بشكل عام والتعليم العالي تحديدًا أثبت أنه يمثل عاملًا محوريًا في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتنمية الابتكار ونقل التكنولوجيا، والمعرفة المتخصصة، والتي تعد جميعها عوامل حاسمة لنمو اقتصاد المعرفة. وتمثل كلٌ من فنلندا وايرلندا والهند وسنغافورة شواهد لحالات واضحة في هذا الصدد؛ حيث أسهمت تنمية الموارد البشرية في هذه الدول في دعم قدرتها التنافسية الدولية والابتكارية وهو ما يؤكد أن تطوير التعليم خاصة العالي منه على كافة المستويات يمثل فرصة يتوجب استغلالها في سلطنة عُمان.

وسوف نقدم في المقال المقبل (الجزء الخامس) شرحًا مُفصَّلًا حول المرتكز الثالث المتعلق بالبحث والتطوير والابتكار، والذي يعد جزأ لا يتجزأ من الأولويات المستهدفة لرؤية "عُمان 2040" ضمن محور الإنسان والمجتمع؛ وصولًا لأهداف التعليم والتعلم والبحث العلمي وبناء القدرات الوطنية لتحقيق منظومة تعليم شامل وتعلم مستدام وبحث علمي تقود إلى مجتمع معرفي ذي قدرات وطنية منافسة.

** متخصص في اقتصاد المعرفة

 

تعليق عبر الفيس بوك