انتبهوا يا أولي الألباب!

 

د. صالح الفهدي

 

ها هي الصِّينُ مرَّةً أُخرى تقدِّمُ درسًا في الحفاظِ على الثقافةِ "المرسومة" للإِنسان الصيني، وهي ثقافة تواجه تحدِّيات جسيمة، أغلبُ مصدرها يأتي من الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا) لتمييع الثقافة الصينية المترسخةِ على قيم وعادات متجذرة منذ القديم في تاريخ الصين الكونفوشية (نسبة إلى حكيم الصين الفيلسوف كونفوشيوس).

لقد أعدَّت الصين قيودًا صارمة ستطبَّق مع بداية الشهر القادم في الصين تقضي بمنع القاصرين من قضاء الكثير من الوقت على هواتفهم الذكية؛ حيث لن يُسمح للأطفال «غير البالغين» بالوصول إلى الإنترنت من الأجهزة المحمولة من الساعة 10:00 مساءً حتى الساعة 6:00 صباحًا. وتشمل القيود الأخرى استخدام الهاتف المحمول لمدة ساعتين كحد أقصى للأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و18 عامًا.

تأتي هذه القيود بسبب الإدمان على الإِنترنت، وضعف البصر الذي أصبح ظاهرة لدى الصغار، وتدنِّي المستوى الدراسي، في حين تندرجُ الخطوة ضمن إطارِ الرؤية التصحيحية التي بدأت الصين في تنفيذها منذ عام 2021 لمكافحة ما تصفه الصين بـ"الأمراض الاجتماعية".

كتبتُ مؤخرًا مقالًا بعنوان "منظومة الحماية الأخلاقية" التي على الدولة أن تتبناها نظرًا لما للأمراض الاجتماعية التي تنتشرُ في أوساطها من تأثيرات سلبيَّة على التربية والهوية والإنتماء الوطني والأخلاقيات، وحذرتُ من أن الإِعراض أو الإِهمال في هذا الجانب له عواقبه الوخيمة على المدى المتوسط والطويل.

إنَّ الدول حين تتقصَّى بعض الظواهر من خلال الدراسات لا تفعل ذلك من أجلِ أن تُركن هذه الدراسات في الأدراج، فتطويها عاديات الزمن، وإِنما لكي تُعالج أسبابها حتى لا تتفاقم فيصعبُ حلَّها، وهُنا أُشير إلى دراسة مهمَّة أجرتها وزارة التنمية الاجتماعية في سلطنة عُمان بالإِشتراك مع جمعية الإجتماعيين في عام (2020) على أكثر من ألفي طفل من الذكور والإناث من مراحل الدراسة المتوسطة، وهي عيِّنة كبيرة، وفيما يلي أُشير إلى أهم النتائج:

توصلت الدراسة إلى أن نسبة امتلاك الأطفال للأجهزة الإلكترونية بمختلف أنواعها تبلغ 99%، منهم أكثر من 75% يمتلكون أجهزة هاتف نقال، وأكثر من 45% من الأطفال يملكون أجهزة حاسب آلي، وأكثر من%35 يمتلكون أجهزة لوحية، و5% يمتلكون أجهزة أخرى.

كما بيَّنت الدراسة أنّ أكثر من 35% يمتلكون ألعاب فيديو وتختلف من حيث طريقة اللعب والعرض؛ إذ أَنَّ أغلبها مرتبط بالعنف والقتل والكراهية والعديد من الأفكار الدخيلة على مجتمعاتنا!

والمؤسف أن أكثر من 90% يستخدمونها للترفيه والتسلية، والنسبة الأقل هم من يستخدمها للبحث عن معلومة ومعرفة أحداث العالم، أما التواصل مع الآخرين وتكوين صداقات جديدة ومتابعة المشاهير فتفوق نسبتهم 85%.

كما إنَّ هذه الألعاب تعرض صورًا غير مناسبة وخادشة للحياء، وقد تدعو الأطفال والأسر- على حد سواء- إلى قبولها وعدم استنكارها على المدى البعيد، ما يسهم في إيصال رسائل مبطنة للأجيال وتغيير تفكيرهم حسب الدراسة.

أشارت الدراسة أيضًا إلى أنّ نسبة استخدام الأطفال للأجهزة الذكية من ساعة إلى ساعتين بلغت 24%، ومن ساعتين إلى 3 ساعات يشكلون 21%، ومن 3 ساعات إلى 5 ساعات يمثلون 17%.

وبيَّنت الدراسة أنّ أكثر من 50% تقريبًا من الأطفال يستخدمون الإنترنت كل ساعتين إلى 5 ساعات وأكثر، ويكثر الاستخدام في فترات نهاية الأسبوع والعطلات ووقت الليل، وهذا يُعَدُّ مؤشرًا خطيرًا، حيث إنّ أكثر من 89% من الأطفال يملكون حسابات خاصة في وسائل التواصل الاجتماعية.

هذه النتائج تستوجبُ التوقف عندها مليًّا من قِبل الأُسرة والمجتمع عامَّة والمؤسسات المختصة، ليس لمجرَّدِ قراءتها والمرور عليها- كما يحدثُ في الغالب- وإِنما بوضع برنامج عملي للحماية الأخلاقية من الأخطار التي وقع فيها النشء الذي هو أساس مستقبل الوطن.

ما فائدة الدراسات إذن إن كانت تُعرضُ في الصحف ووسائل الإِعلام ثم تختفي في ذاكرة الحواسيب؟! ما فائدتها إن كانت تحملُ مؤشرات خطيرة، فلا يقابلها برنامج عملي يستدرك الإشكاليات العويصة التي تنتظرها؟!

مثل هذه الدراسة تحملُ مؤشرات خطيرة إن لم يحملها كل طرفٍ مسؤول فلا فائدة تُرجى من مسؤوليته، ولا واجبَ يُنتظرُ منه!.

نعود للحديث عن الصينُ فنراها تقدِّم أُنموذجًا حمائيًا لأخلاقيات أبنائها؛ إذ إنها تحوِّل التوصيات التي تأتي من المختصين إلى برنامج عملي صارم، وحين نتحدثُ عن الصين فإننا نتحدث عن أكبر دولة في عدد السكَّان في العالم، ومع ذلك فلم ترَ في الأمر من صعوبةِ التنفيذ، وإنما تُدرك أن تأخرها يعني ضياع الأُمة الصينية، وتفكك هُويتها التي وضعت في المرمى منذُ عقودٍ طويلة.

نحنُ أيضًا متقصَّدون في هوياتنا الوطنية، وثقافتنا الأصيلة، دون أن نفعل شيئًا يُذكر، بل أننا نساهمُ في الهدم والإستنقاص والتقليل والتسفيه، وهذه مهدمات تعين ما يأتي من الخارج... فانتبهوا يا أولي الألباب!