صالة المطار.. أرض المشاعر المزدحمة!

 

 

مدرين المكتومية

في كثيرٍ من الجلسات التي تجمعني بصديقاتي المُقرَّبات منهن وغير المُقرَّبات، تدور أحاديث المُعاناة، البعض يحكي والأخريات يُحللن ويضعن الحلول، بيد أنَّ واحدةً منهن انضمت لهذه الجلسات مؤخرًا، تكتفي فقط كل مرة بتقمُّص دور "المُحلِّل"، رغم ما تحمله عيناها من كلام كثير تحتاج أن تبوح به لتُخرجه من سجن الأفكار إلى فضاء "الفضفضة" الواسع تخفيفًا لثقل الحمل، وإحياءً لروح التجديد في النفس.. في كل مرة نحاول إقناعها بالكلام تأتي إجابتها بعين لامعة "الأمور طيبة حبيباتي"، وتدير دفة الحديث إلى اللا شيء.

في كل مرة، كنت أتساءل: جميعنا يتكلم ليشعر به الآخرون، ولكن ماذا عن من لا يبوح بشيء؟ ماذا عنه إذ تبدو كل معرفة به مستعصية، وكل ما يتعلق به غامضًا؟ حاولت جاهدةً أن أجد لهذا تفسيرًا، ولم أجد سوى أنه يجب علينا أن نبذل جهدنا في الوصول إلى ما يُعبِّر عنا، أن نجرب كل طريقة ونتواصل مع أعماقنا ومع الحياة من حولنا لمعرفة أرقى طرق التعبير.. فمشكلة المشاعر أنها تتولّد من عدّة مكونات، قد لا نعرف إلا جزءاً يسيراً منها، مع أن كل شيء نعيشه يتدخل بطريقة ما في صناعة مشاعرنا وفي كثير من الأحيان يكفي أن نتخيله أو نعرف وجوده فقط، ليصبح مُكوِّنا لها، فما من شيء تُدرك لينه وسهولته إلاّ ويجعلك عارفاً بأمانه، وما من شيء تدرك قسوته وبأسه إلا ويجعلك رهينَ ألمه. وبين لين وقسوة تحاول أن تفعل شيئاً قاسياً تجاه مشاعرك التي لا تعجبك، فتجد نفسك في صراع داخلي كبير، لا تتمكن من الفوز فيه مهما كنت مقاتلاً شرساً.

إنَّ المشاعر التي يعيشها كل إنسان منا بحياته في مختلف المواقف واللحظات، أحياناً لا يمكن وصفها أو التعبير عنها، كونها شيئًا لا شعورياً ولا يمكن شرح قوتها أو مدى تأثيرها علينا كأشخاص، لكن أتُرى الحل في الاستسلام؟ والسكوت وعدم الكلام؟ والانكفاء على الذات دون بوح يحد من وقع المعاناة؟ أو حتى بوح بمشاعر الفرح والسعادة والهناء؟

إننا نعيش الحياة كمن يحمل في يده تذكرة سفر، لا يعرف أين سيأخذه بها القدر، لكنه يعلم يقينًا قدرة تلك الورقة البسيطة على صناعة يومه، أو تغيير مزاجه، فبمجرد أن يضع المرء منا قدمه على أرضية المطار ينتابه شعور مختلف، كأنه تنفس الحرية، وكأنه يكسر قيودًا في لا وعيه بالسير في ممرات الحياة وأزقتها المتفرعة.. وفي صالة المطار شعور آخر يتولَّد تلقائيًّا ويكبر في النفس دون إرادة منَّا، أناس هنا وهناك، منهم من يبحث عن بوابته، وآخر يحستي قهوته مستمتعا بلحظات المطار التي لا تُقاوم، وغيرهما يبحث عن هدية للذكرى يضعها بين يدي من يُحب.. عالم آخر لا متناهي رغم مساحته المحدودة، كلٌّ بلغته ولهجته وطريقة حياته، تنظُر للمارة وأنت بزاوية لا يلمحك فيها أحد سوى القليل منهم، تنظر وتراقب حركات وسكنات وتقيِّم كل شخص وفق مشاعرك، وتحلل من خلالها مشاعر الآخرين.. فساحة المطار هي المكان الوحيد الذي تجتمع فيه كل أنواع المشاعر، إنه "أرض المشاعر المزدحمة".

الآن.. رحلة الهبوط إلى أرض الواقع، والعودة إلى أحضان مشاعرنا المتداخلة، ومن مشهد أفقي، دعوني أقرِّب لكم الصورة أكثر، إننا نعيش أيامنا المليئة بالأشخاص، والالتزامات، والروتين، وعندما يقرر فرد منَّا ترك كل شيء وأخذ إجازة لنفسه ومع نفسه، تبدأ مشاعره الفعلية تتغيَّر.. وهذه قناعتي، نصحتُ بها "صديقتي التي لا تبوح"، أخبرتها بأنْ تُطلق العنان لروحها لتعانق فضاء السحاب برحلة سفر كفيلة بتغيير مزاجها، مستأنسة بـ"مشاعر السفر"، تلك التي يعيشها المرء منَّا بسعادة وحب مع ذاته أكثر من أي شيء آخر.. فبمجرد الحصول على بطاقة الصعود للطائرة، تشعر وكأنك حصلت على "صك الوعد" بلحظات رائعة لا تتكرر.

الأكثر قراءة