هجرة المخرجات التخصصية للخارج

 

 

د. عبدالله باحجاج

لن نعتبر هذه الهجرة ظاهرة في هذا المقال، وسنتناولها بأدق التوصيفات في مقال لاحق عندما نتعمَّق في خلفية ما اطَّلعنا عليه من تفضيل مخرجات عُمانية تخصصية من أرقى الجامعات العالمية الهجرة لخارج البلاد عندما لم يجدوا فرصَ عمل في وطنهم، فهاجروا لشرق آسيا ولدول خليجية، وفُتِحت لهم الأبواب، وآخرون فضلوا العمل في مقر دراستهم الأوروبية...إلخ، وما كشفه سعادة يعقوب الرحبي في بيانه العاجل في مجلس الشورى مؤخراً عن كفاءة عُمانية تخصصية نوعية لم تُقبل بسبب أنَّ طولها ينقص بعض السنتيميرات عن الشرط المحدد في إعلان الوظائف، يُدلِّل على ما هو أخفى وأكبر، ويدلل على أهمية تصويب هذه الكسار عاجلا، فهي تفتح أبوابَ الهجرة التاريخية مجددا.

ومع ذلك، لن نطلق على الهجرة بأنها ظاهرة، وسنتعامل معها في المقال كحالات تلقيناها بأسماء محددة من مصدر مطلع ورفيع قبل أسبوعين، وهي تندرج ضمن إشكاليات قضية الباحثين عن عمل، لكنها تتميز عنها، بأنها أولا: تمثل بداية نزيف التخصصات النوعية المحدودة التي يحتاجها الاقتصاد العماني الجديد الذي يعتمد على المعرفة المتقدمة، وهي ثانيا: استنزاف لموارد الدولة؛ إذا كانت اقتصاديات دول أخرى ستستفيد منها دون اقتصادنا الوطني.

 وهي ثالثا: تضع الكثير من علامات الاستفهام حول ضمانات توجهات الدولة المستقبلية بعد أن قررت الحكومة إرسال 150 من مخرجات التعليم للعام 2023 لتأهيلهم العلمي في أرقى الجامعات العالمية لتخصصات نوعية ودقيقة على مدى خمس سنوات، فكيف نفسِّر السر وراء هذا التناقض؟ هل في المؤسسات أم في النخب أم في القانون؟ وهل هناك ضمانات لمشاريع الكفاءات التي يتم تأسيسها 150 خريجا مثلا أن لا يكون مصيرها الهجرة؟!

ينبغي أن تكون هناك خارطة طريق واضحة لها، سواء من حيث تأهيلها التطبيقي في الشركات الكبرى بعد تخرجها فورا لاكتساب الخبرة التطبيقية، أو مقر عملها المباشر بعد عودتها لوطنها، وهناك توجهات إستراتيجية للدولة لتأسيس كوادر وأطر تخصصية عمانية متعددة لاقتصاديات الهيدروجين الأخضر وللطاقة النووية للأغراض المدنية والطائرات المسيرة والفضاء الخارجي...إلخ، وما تحديد الحكومة 150 خريجا عمانيا لتأهيلهم علمياً في أرقى جامعات العالم خلال الخمس سنوات المقبلة ما هو إلا وعي بأهمية الكفاءات للاقتصاد العماني الجديد بعد إقامة بنيات تحتية لهذه الاقتصاديات، كمؤسسات ومراكز، وتوقيعها مذكرات تفاهم مع شركات عالمية في مجال الصناعات، ومن بينها الاستثمار في تصنيع تقنيات الطائرات المسيرة.

لكنَّ هواجسنا من صناعة مستقبل إدارة الكفاءات مقلقة في ضوء قضية هجرة التخصصات العمانية حتى لو كانت محدودة، وكذلك في ضوء ما كشفه الرحبي سالف الذكر، وهي تدحض مسألة التلويح بمحدودية فرص العمل في بلادنا، وقلة الكفاءات الوطنية، فهي تظهر مجددا أنها مجرد حجة غير مقنعة، بدليل عدم هذه الهجرة، وتفضيلها المغادرة عوضاً عن انتظار الوظيفة عدة سنوات، وتؤكد هذه القضية أن هناك تخصصات محتكرة من الأجانب بمواد قانونية صريحة، كالمادة (39) من قانون العمل العماني القديم، فهل تغيرت هذه المادة في قانون العمل الجديد أم لا تزال قائمة؟

سنتناولها في مقال خاص، لنبيِّن كيف تقف هذه المادة حجر عثرة في وجه التعمين من جهة، وفي استنزاف موارد عمومية من جهة ثانية، وتظهر الحاجة إلى التقنين الزمني للخبرات الأجنبية في بلادنا، ومن إحلالها بمواطنين جاهزين مهنيًّا وخبراتيا، وهذه سياسة حكومية، لكن تطبيقها لم يرتق إلى المسؤولية الوطنية في استهدافاتها المعاصرة؛ فمثلا: أين قوة زخم سياسات الإحلال والتدريب والتعمين؟ وقد وقفنا عند مذكرة تفاهم وقعتها وزارة العمل مع مكتب محافظة ظفار من أجل تدريب وإحلال العشرات -تناولناها في مقال سابق- والخطوة نفسها أقدمت عليها الوزارة مع قطاعات اقتصادية خاصة في ظفار لتطبيق هذه السياسات، فأين هي من التطبيق الآن؟ ربما نرجع القضية هنا إلى طبيعة دور الدولة الجديد في الاقتصاد والمجتمع، وهو يحد من تدخلات مؤسسات الدولة في مؤسسات رأس المال المحلي والأجنبي الذي تتعاظم مركزيته الآن، بعد أن تم ربط نجاح رؤية عمان 2040 به، أي بحصة الأسد من الاستثمارات!!

وقلقنا على إدارة مواردنا البشرية "تعليما وتأهيلا وتوظيفا" قديم، لكنه يتجدَّد الآن في ضوء هجرة تلكم التخصصات، وما أشرنا من مركزية رأس المال بشقيه المحلي والأجنبي، فالدولة قد خسرت في تلكم التخصصات المهاجرة الأموال الكبيرة حتى أهلتها في تخصصات نوعية كهندسة البترول، وهندسة التصنيع، وهندسة الأدوات الطبية...إلخ ولم تجد فرص عمل في وطنها، فكانت الهجرة خيارا موضوعيا، وهذا شأن كل مجيد/مبدع، واثق من تكوينه وتأطيره العلمي والمهني، ومتحرر من القيود السيكولوجية والاجتماعية التي اغتالت قدرات وإمكانيات الكثير من كفاءاتنا، وكان مصيرها التقوقع والاستكانة، وقبول بدائل دون تخصصاتها رغم أنها لو عبرت الحدود لاستُقبِلت بالورود.

صدمتني معلومة هجرة تلكم الكفاءات، ولم نتمسك بالصبر حتى نلتقي بالمصدر على هامش خريف ظفار 2023 لمزيد من التفاصيل، فسارعنا إلى التعاطي معها كحالات لعلنا نشغل بها الفكر الوطني حتى لا تتكرر مستقبلا، وستتكرر ما لم تكن هناك جهة إشرافية وطنية عُليا مكونة من نخب لها صلاحيات الرقابة والمساءلة، وترفع تقاريرها مباشرة إلى المؤسسة السلطانية، فهذا ملف لا يقبل إلا خيار النجاح في التواقيت والماهيات التي تجعل بلادنا تنافس في حقبة تنافس الاقتصاديات الجديدة، إقليميا وعالميا، فكل دولة تسعى لمراكز عالمية في هذه الاقتصاديات.

وكلُّ دولة تملك الكوادر الوطنية المؤهلة لهذه الاقتصاديات ستضمن ديمومة قوتها الاقتصادية الجديدة، واستقلالية قرارها، وكل دولة تعتمد على الأجانب، ستكون رهينة التوترات الجيوسياسية، والأطماع المالية، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من الخبرات الأجنبية، بل هي حتمية، لكن في ظل وجود نسبة مطمئنة من الخبرات والكفاءات الوطنية، بحيث نضمن الاستمرارية في أسوأ الاحتمالات.

وقد اطَّلعنا على عدة تجارب إقليمية، من بينها خليجية، ولفت انتباهنا تركيزها على تعليم وتأهيل وتدريب العنصر الوطني في نفس رهاناتها على الخبرات الأجنبية، وقد وصلت الآن إلى مستويات آمنة؛ فمثلا قطاع الفضاء الخارجي، وصلت نسبة كفاءاتها في القطاع إلى أكثر من النصف، وبلغوا الفضاء الخارجي بعدما أصبحت بلدهم لها عدة أقمار اصطناعية، ودولة مثل بلادنا، قادرة أن تُؤسس علماء وخبراء في كل المجالات العصرية، فالخامات البشرية متوفرة، فما علينا سوى تحرير السياسة المالية، وانفتاحها على هذا الملف العاجل، وبإدارة وطنية وسياسية من خارج المصانع الوزارية التي بسبب انشغالاتها قد يغفل عنها أو قد يعرقلها محددات وضوابط قانونية معرقلة، وسيكون من مهمة هذه الإدارة تحطيم مثل هذه الصخرة الصماء لدواعي مستقبل البلاد.

من هنا، ينبغي أن نستفيد من أبناء الوطن كامل الاستفادة، وأن تكون هناك مرجعية مؤسسية تُشرف وتدير هذا الملف، ويكون لديها تواصل مفتوح مع السلطة السياسية العليا، فهذا الملف سياسي بامتياز كونه يتعلق بمستقبل الوطن.