قانون العمل وتحديات المستقبل

حاتم الطائي

 

◄ ما تحقق خلال الفترة الماضية من مُنجزات يؤكد أننا نمضي وفق أسس واضحة

◄ القانون الجديد بالتوازي مع منظومة الحماية الاجتماعية يسهم في تحسين مناخ الاستثمار

◄ المُشرِّع العُماني ضبط باحترافية آلية الاستغناء عن العامل حال تعثر المؤسسة أو إفلاسها

 

تمضي مسيرة نهضتنا المتجددة في العهد الزاهر لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم -حفظه الله ورعاه- لتُحقق المزيد والعديد من المُنجزات على مُختلف الأصعدة؛ اجتماعيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، وغيرها من مجالات شؤون الدولة وإدارة الحكم.

وشهدتْ الشهور القليلة الماضية إصدار العديد من التشريعات والقوانين المُنظمة لقطاعات عدة في الدولة، والداعمة لجهود حكومتنا الرشيدة من أجل توفير الحياة الكريمة والمعيشة اللائقة لكل مواطن ومواطنة، فبعد صدور قانون الحماية الاجتماعية ومنظومتها المتكاملة الجامعة الشاملة، ابتهج المواطن بصدور قانون العمل الجديد، بعدما أخذ نصيبه من النقاش المجتمعي والبرلماني، واستطاع المُشرِّع العُماني أن يُصدره في أفضل وأتمّ صيغة يمكن أن يكون عليها هكذا قانون؛ إذ يُلبي تطلعات المواطن في قانونِ عملٍ يضمنُ له حقوقَه ويساعده على أداء واجباته، علاوة على أنه يتماشى مع التطورات والمُتغيرات التي يشهدها سوق العمل، ويتوازى كذلك مع القواعد العالمية ومعايير منظمة العمل الدولية؛ الأمر الذي يُحقق العديد من المنافع على مستويات عدة؛ لا سيما من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية.

ولا ريب أنَّ مثل هذه التشريعات تُرسِّخ الاستقرار الاجتماعي وتدعم جهود تعزيز النمو الاقتصادي، وجذب الاستثمارات، بالكيفية التي تحقق المنفعة لجميع الأطراف، ولقد حرص المُشرِّع العُماني على إيلاء مسألة التوازن أهمية كبرى عند صياغة هذا القانون، سواء في المراحل التي سبقت إحالته إلى مجلس عمان (الشورى والدولة) أو خلال المراحل التي مرَّ بها في هذا المجلس بجناحيه. ويؤكد ذلك مفهوم الشراكة بين مختلف الأطراف، خاصةً أطراف الإنتاج الثلاثة: الحكومة وأصحاب الأعمال والعُمَّال، وهي الثلاثية الضامنة لكافة الحقوق والواجبات.. فعلى مدار شهور مضت، كانت هذه الأطراف الثلاثة تجتمع لوضع الخطوط العريضة وصياغة مواد قانون العمل، وتشكلت اللجنة الثلاثية من وزارة العمل (الحكومة) وغرفة تجارة وصناعة عُمان (أصحاب الأعمال) والاتحاد العام لعمال سلطنة عمان (العمّال)، وعكفت هذه الأطراف على الوصول إلى أفضل صيغة مُقترحة للقانون، بما يُؤسِّس لمرحلة جديدة من العطاء والعمل والإنتاجية، تتجاوز سلبيات الماضي وتعكس الحاضر المزدهر وتستشرف المستقبل المُشرق بإذن الله.

وهذا التعاون المُثمر أفضى إلى نتائج إيجابية للغاية، تمثلت في نجاح القانون الجديد في تحقيق التوازن بسوق العمل، والموازنة بين مصالح أصحاب الأعمال وحقوق العمال، وهو ما يُساعد بدوره على إيجاد قطاع خاص ذي تنافسية عالية، ويحقق النمو الاقتصادي المنشود، ويوفر الوظائف التي تتيح المعيشة الكريمة لكل مواطن، فضلًا عن تميُّزه بالتطوّر والتجدد، من خلال تنمية قدرات الموارد البشرية الوطنية العاملة، عبر برامج التدريب والتأهيل المستمرة.

وإضافة إلى ما سبق، فإنَّ قانون العمل الجديد بالتوازي مع منظومة الحماية الاجتماعية، يسهم في تحسين مناخ الاستثمار وتعزيز مكانة سلطنة عمان في المؤشرات الدولية؛ إذ إن المُستثمر الأجنبي عندما يخطط لضخ رؤوس أموال في أي مشروع، يبحث أولًا عن الدولة التي توفر تشريعات مرنة تخدم جميع الأطراف، بما يحقق مصالح الكُل. ولقد ظلت بعض القضايا المُتعلقة بقانون العمل محل نقاش وجدل فيما يتعلق بقدرتها على جذب مزيد من الاستثمارات إلى وطننا الغالي، لكن لا عذرَ اليوم أمام أي طرف؛ سواء المُستثمر أو العامل الباحث عن فرصة مناسبة؛ فالحقوق أصبحت مُصانة، والواجبات باتت معروفة للجميع وواضحة وضوح الشمس.

ومما يُحسب للمُشرِّع العُماني أنه ضبط باحترافيةٍ المواد المُتعلقة بالاستغناء عن العمال في حالة تعثر المؤسسة أو تراجع إيراداتها المالية أو اقترابها من حالة الإفلاس، فضلًا عن وضع الضوابط الكفيلة بحماية حقوق المؤسسة أو العمال في حالات عدم التزام العامل بالتكاليف والمسؤوليات المناطة به، أو تقاعسه عن أداء عمله، أو رغبته في الانتقال لوظيفة أخرى، أو رغبة المؤسسة في فصل العامل نتيجة عدم الالتزام ببنود عقد العمل أو الإخلال بمهام عمله، أو التغيُّب عن العمل حسب الفترة التي يحددها القانون.. وكل ما سبق يتضمنه القانون الجديد ويضع له المسارات التي ينبغي تطبيقها والتقيّد بها لضمان حقوق جميع الأطراف.

ومن جهة ثانية، فإنَّ قانون العمل -وبفضل ما يحتويه من مواد تدعم حقوق العمال كما تعزز الاستثمارات- سيدفع بتصنيف السلطنة على المؤشرات الدولية نحو مزيد من التقدم، نظرًا لأنَّ القضايا العمالية تمثل جانبًا مهمًّا ومعيارًا أساسيًّا من معايير تقييم تنافسية السلطنة على المستوى الدولي، ولا شك أنَّ المكتب الوطني للتنافسية سيعمل على الاستفادة من الميزات الجديدة التي يقدمها قانون العمل؛ سواء من حيث دعمها لحقوق العمال، خاصة المرأة العاملة، أو بالنسبة لمؤسسات القطاع الخاص التي ستتعامل مع أي قضية عمالية أو نزاع عمالي وفق أسس وآليات تقاضي واضحة مضمونة النتائج العادلة. إلى جانب أن الحقوق التي يضمنها القانون للعامل غير العماني ستكون محل إشادة من المنظمات الدولية، والتي لطالما كانت تُثير بين الفينة والأخرى، بعض القضايا ذات الصلة بالعمالة الأجنبية، لكنها لن تعد ذات صفة من الآن وصاعدًا بفضل المواد المُصاغة باحترافية وتحقق المساواة والعدالة لجميع الأطراف.

وكما أشرنا في مقالنا السابق إلى المنافع الاجتماعية لمنظومة الحماية الاجتماعية، فإنَّ قانون العمل الجديد جاء ليرسِّخ الحقوق العمالية ذات الصلة بالأوضاع الاجتماعية للعامل أو العاملة؛ فالقانون الجديد ينظّم الإجازات التي يستحقها العامل خلال مسيرته المهنية، والعامل هنا يشمل كلًّا من العُماني وغير العماني، خاصة المرأة العاملة، التي تحظى بإجازة أمومة تُعينها على تربية رضيعها التربية المناسبة والملائمة، علاوة على إجازة أبوّة للرجل العامل، في تأكيد غير مسبوق على أحقية كلا الطرفين في فترة زمنية مناسبة تساعد الأسرة على التماسك والاستقرار الاجتماعي. كما أقرَّ القانون إجازة وفاة أحد الأقارب حسب درجة القرابة، وكذلك إجازة للمرأة العاملة عند وفاة زوجها، مما يُساعدها على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الالتزام بفترة العِدَّة.

إذن؛ نحن أمام منظومة تشريعية متوازنة، تضمن العدالة للجميع، وتسعى لتحقيق المساواة قدر المُستطاع، وتُلبي احتياجات سوق العمل وتواكب متغيراته؛ سواء تلك المتعلقة بالجوانب والتطورات الاجتماعية، أو الطفرات التكنولوجية والمعرفية التي تؤثر على سيرورة واستمرارية هذا القطاع الحيوي.

ويبقى القول.. إنَّ ما تحقق خلال الفترة الماضية من مُنجزات على مستويات عدة، يؤكد أن وطننا الحبيب عُمان يمضي على أسس واضحة من التقدم والازدهار، وأن مسيرة نهضتنا المتجددة تسير وفق الرؤية السامية التي يريدها المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المُفدى -نصره الله- وأن المواطن العُماني يجني الآن ثمار الصبر والتحمّل خلال الفترات الماضية، كُل ذلك يتوازى مع جهد صادق وحرص شديد على أن يحظى كل مواطن بحقه في حياة كريمة ومعيشة مُستقرة وآمنة، له ولأبنائه من بعده، وللأجيال القادمة.