طفل الطائرة اليمني

فاطمة اليماني

 

"الرحلة الحقيقية ليسَت في أنْ ترى طبيعةً جديدة؛ بل في أنْ ترى بعينين جديدتين".

(مارسيل بروست)

 

***

في الطائرة..

لفَت انتباهها طفل يمني لم يتجاوز العاشرة بعد... شاحب الوجه، جامد النظرات... رغم قسمات وجهه البريئة!

أسنَد رأسه على الكرسي... ثمّ غفى وأفاق... ثم غفى مرّة أخرى في هدوء وسكينة غير آبه للتيّارات والمطبّات الهوائية.

بينما كان قلبها يرجفُ رُعْبًا بسببِ المطبّات الهوائية التي تبدو بأنّها شعرت بخوفها، وقرّرت العبث بجناحيّ الطائرة، والتلاعب بأعصابها!

ثمّ استرقت النظر لمن حولها... كانت معظم الوجوه مطمئنة... وحركة المضيفات على قدم وساق، وعندما سألتها إحداهن إذا كانت ترغب في شرب الشاي أو القهوة، ردّت عليها:

- صائمة!

ولم تكن صائمة بالمعنى الحرفي للصِيَام، كل ما في الأمر أنّ سيطرة الخوف أفقدها الرغبة في تناول الطعام، أو شرب القهوة؛ فهي منذ الصباح الباكر لم تبتلع شيئًا؛ لأنّ التحليق في السماء أمر قهريّ، وهي مجبرة على القيام به، بعدَ أنْ وعَدَت ابنها بأنَّ هدية نجاحه ستكون تذكرة سفر، دون تحديد وجهة السفر!

ثم جادلته حّتى جفّ حلقه، فوافق على أقرب بلد بحيث لا تستمرّ الرحلة أكثر من ساعة! ولو عثرت على رحلة أقصر زمنًا لما تردّدت!

ولن يتوقع أحد ممن يشاهدها وهي تبتسم؛ بأنّ هذه الابتسامة الصفراء تُخْفِي الكثيرَ من الذعر، وبأنّها تعاني من "فوبيا الطيران"، وفي حاجّة ماسّة إلى علاج نفسي!

- متى آخر مرة ركبت الطائرة؟!

- قبل عامين... أو ثلاثة أعوام! أو أربعة!

وسبب الفوبيا التي استعرَت لديها قبل السفر بأيام قليلة، هو مشاهدة الكثير من الفيديوهات التي توثّق حوادث الطائرات، وما تحتويه من بشاعة منظر الحطام، والأشلاء المتطايرة، ونحيب أهالي المفقودين.

كما أنّها فُجِعت عندما شاهدت فيديو حادث طائرة القوات الجزائرية، متأثّرة بكلمات قائد الطائرة "دوسان إسماعيل" قبل سقوطها بقليل، وهو يخاطبُ الركاب الذين كان معظمهم من العسكريين الشباب، ويقول لهم:

"اسمحوا لي أنْ أتحررَ من الرسميات، وأقول أبنائي...وأعتذرُ منكم جميعًا عن هذا الخبر... سوف تقعُ الطائرة بعد قليل... إنّها الشهادةُ أبنائي...لا تنسوا الشهادتين".

فانتحَبَت مع أهالي الضحايا، وهي تتابع التغطية الإعلامية الغزيرة عن الحادثة، وبكَت مع كلّ باكٍ وباكية!

وبعدما انتفخت جفونها، دخل ابنها راكضًا كأنّه في سباق، ثم انزلق على الأرض وهو يضحك، فلمح دموعها، وصمت احترامًا لمشاعرها، بل خوفًا من إثارة غضبها؛ فتجد عذرًا لإلغاء الرحلة التي كان ينتظرها، ولا بأس من تأجيل طيشه، وشغبه لما بعد الرحلة!

لذلك؛ كان هادئًا قبل السفر بيومين، وظلّ هادئًا في المطار...

وفي الطائرة، اقترح عليها أنْ يجلسَ قرب النافذة، فوافقت بلا تردد، وجلست في المنتصف بين ابنها، وبين شابّة عشرينية ثرثارة، فقد كانت في وضع تشعر فيه بأنّ عبارة كيف الحال؟ ثرثرة؟!

فكانت ترد على أسئلة الفتاة بكلمة واحدة مقتضبة!

فسَئِمَت الشابّة منها، وطلبت من المضيفة تغيير المقعد، وفعلا انتقلت للجلوس قرب فتاة في مثل عمرها، ولها نفس طبيعتها في الثرثرة والضحك.

بينما عادت لتأمّل ملامح الطفل اليمني الذي كان يتأمّل المكان في هدوء وسكينة، ثمّ يغمض جفنيه؛ وكأنّ هذا العالم لا يعنيه، بل كأنّه الآن في أكثر الأماكن أمنًا، وسلامًا... بعيدًا عن الحرب، ودمار الحرب.

ولم يزعجه مرور طفلين مشاغبين قربه، حين ارتطم أحدهما بذراعه بقوة، لكنّه لم يقل لهما شيئًا، ولم يتأوّه، فهذه الآلام بسيطة جدًّا مقارنة مع آلام الحرب، وجراح الحرب...

واستمرت في تأمّل ردّة فعله، وفي مراقبة الطفلين المشاغبين اللذين لا يعني لهما شيئًا حقيقة أنّهما على ارتفاع عالٍ في السماء! وفي أيّ لحظة قد تسقط الطائرة!!

- لكن ما فائدة الجلوس؟ أو الركض حال وقوعها؟!

لذلك سأَلها ابنها، وهو يشاهدُ صمتها:

- هل يسافر الشيطان معنا؟!

- اصمت!

ضحكَ ابنها، لأنّه يعتقد بأنّ الشيطان استحوذ على دماغ والدته؛ وجمّدها في مكانها، فلا تنطق، ولا تريد لأحد أنْ ينطق!

ولو كانت تمتلكُ الصلاحية؛ لأغلقت الأفواه بشريط لاصق إلى أنْ تهبط الطائرة بسلام!

وعندما نظرت إلى الشاشة التي تعرض خط سير الرحلة، شعرت بارتياح مشوب بحذر، فالوقت الذي مضى أكثر من الوقت المتبقي! لكنّ احتمال سقوط الطائرة وارد! أو أنْ تختفي كما حدث مع الطائرة الماليزية!

- كيفَ اختفَت؟ كيفَ تلاشت؟ وبِمَ شعر الركاب وهم يتبخرون في السماء؟! أو ربما عبروا من بوابات السماء التي تبتلعُ الطائرات؟ وتسحب هياكلها إلى العدم؟! وإلّا ما معنى أنْ تعجز السلطات الماليزية وفِرق البحث والإنقاذ من ثلاث عشرةَ دولة من العثور على أيّ أثَرٍ للطائرة؛ لتصدر بيانًا رسميًّا بتعليق البحث عن الطائرة المفقودة!

- وإذا حدث لهذه الطائرة نفس المصير؟ كيف ستكون ردّة فعل المحيطين بها؟؟ هل سيجدون الوقت الكافي للبكاء؟ للشعور بالرعب؟ هل ستتمزق أجسادهم ببطء أو بسرعة؟! وما حجم الألم الذي سيشعرون به؟!

ونسَت في زحمة الأسئلة التي ملأت رأسها الخوفَ، وبدت الرغبة في معرفة المجهول أكثر تأثيرًا في مشاعرها، لذلك لم تعبأ بصوت ارتطام عجلات الطائرة بأرض المدرج!

وانتشلت نفسها بعد سماع عبارة:

- حمدًا لله على السلامة...

سلامة الوصول، وسلامة إدراك أنّ الحياة قائمة على الحركة، وما هي فيه ليس سوى ضريبة العزلة التي فرضتها على نفسها، وعلى ابنها...

وضريبة الروتين المميت الذي تحيا فيه... حين تقضي الأيام والأسابيع في المنزل، تتنقل من السرير إلى الكنبة، ومن الغرفة إلى المطبخ!

غير آسفة للمشاريع المؤجلة التي سطرتها في دماغها... مشروع الرشاقة، مشروع التبني، مشروع التعرف على قيم جديدة تقنعها بلا جدل كثير!

منزوية في منزل صغير، وعامل بليد تتواصل معه عبر الواتس آب... وحديقة زرعت بالصبار الذي يتحمل العطش... واختزلت مهارات التواصل مع تطبيق طلبات، ومع أيّ محل تجاري يوصل ما تحتاج إليه عبر الواتس آب!

ولتكتشف في رحلتها أنّ لها أقدامًا يجب عليها استخدامها! وأنّ الشوارع لا تعطي احترامًا للعابِر مهما كانت هويته!

وأنّ النصائح التي كانت تنهال عليها بضرورة الحركة، جميعها صدرت من أشخاص يدركون خطورة الركود بين الجدران الباردة!

تعليق عبر الفيس بوك