إسماعيل بن شهاب البلوشي
كلنا نكتب ونتحدث، والكل منَّا يدخل في أي نقاش ويجادل في كل شيء وبقوة، ويضع حلولاً وانتقاداً وتعليقاً على كل شيء، وهذا من ناحية ليس بتلك السلبية على الإطلاق؛ فالأمم الحية تتحدث وتناقش، ومع ذلك فإنا وإن أطلقنا على كل ذلك جدلاً، فمن هو المعني به؟ ومن يوجهه كنوع لأنَّ لكل أمة أسلوباً في نوع وطريقة النقاش والجدال، يقابله مستوى الإصغاء والفهم؟ ومن هو الرابح أو الخاسر؟ وهل الأمر وصل إلى مرحلة الضجيج ولا مُستخلص من الجدل والنقاش ولا خاسر أو رابح؟
اسمحوا لي أن أستعير الفلسفة ولو لمدة قصيرة، وأتساءل: هل الجدل والموسيقى إخوان؟ ذلك أننا وعندما نعيش جو العيالة مثلاً فإننا نتحرك بانتظام وتكامل ودقة، وإنني على غاية الثقة بأنَّ ذلك التمايل منَّا يحركه إيقاع الطبَّالين، ولا يمكن الخروج عنه، وإذا عُدنا لموضوعنا السابق، فهل الجدل يحرك أفعالًا أي مجتمعًا ويوجِّهه حسب إيقاعه ونغمته، ويكون نتاجَ ذلك الجدل والنقاش هو فعلاً كل ما نرى من إنجاز وعمل أو فوضى وكسل وتخلف؟ وهل يمكننا تشبيهه أيضاً بالخارطة التي صممها مهندس وما على أهل البناء إلا تنفيذ ذلك البناء كما تمَّ تصميمه، وأي خروج عنه يعتبر مخالفة صريحة لذلك التصميم؟
السؤال الأزلي وعلى مستوى الأمة، إذا كان هنالك إقرار بمصداقية وواقعية واعتراف عن سبب التأخر الحقيقي في الكثير من الجوانب، وأن الأمة لم تتأخر وحسب بل إن العالم ينظر إليها بعين الشفقة والطمع فيما تملك، بل إنها تتقاسمه كغنيمة بين شرقها أو غربها.
وإذا أعدنا ما سبق من حديث، فلماذا ساير الناس إيقاع الموسيقى ولم يخرجوا عنه؟ ومن الذي أمر صاحب الإيقاع بذلك اللون من اللحن؟ فهل هو الموسيقار؟ ومن هو البديل في حال الأمم وتوجيهها؟ ومن هو مكان الموسيقار؟ ولماذا يكون الجدل والنقاش بذلك الشكل؟ وهل يمكن الخروج عنه أو تغييره لكي يكون نقاشاً بلون آخر يكون الناتج عنه توجهاً وتصرفاً آخر قد يوجه الأمة إلى فكر أكثر تناسباً وما يحتاجه إنسانها من قوة وفاعلية وحضور بين الأمم.
الكثير من الأمة العربية يُحمِّلون القادة كل المسؤولية، وشخصياً أرى عكس ذلك تماماً، وأحمل السلوك العام وترسبات الماضي حال الأمة الراهن، وأن واقعها ما هو إلا حصيلة ما تُؤمن به فالموسيقار الذي تحدثت عنه سابقاً يقابله بين الأمم الفيلسوف، وأن تكون بين قومٍ تتقبل الاستماع وتطبق النظريات وتكدح من أجل النجاح تماماً كان للموسيقى مكان لدى مطبقي الإيقاع والجمع أخيراً هو من يوجه النجاح، وحتى العدالة المنشودة فإنَّ الجمع من يفرضها، أو أنه يتجاوز الجمع الأكثر القانون والطموح ويقبل الجمع الظلم، وبديلاً عنه يكون الظلم سائداً والتخلف قائماً والغش مقبولاً وليس نشازاً بعكس العالم المتطور الذي لا يقبل أن يكون التطور جدلاً ونقاشاً وانتقاداً ليس أكثر.
وأخيراً.. وإذا أخذنا حضارة الرومان دليلاً، فإنها كانت تحكم بنظريات الفلاسفة والنقاش المفتوح، أما الأباطرة فإنهم كانوا ينفذون رؤية الجمع، وكانوا مكملاً لرؤية شعب اختار الشجاعة والقانون والعمل والإبداع والعدل طريقاً لثبات تلك الحضارة لفترة ليست بقصيرة من عمر الإنسانية، ولم يكن للإمبراطور الكثير مما يعمله لأن الرؤية المجتمعية الإقدام والعمل والكفاح والإبداع؛ لذلك كان هو نفسه نتاج ذلك الجمع الذي سيكون ناجحاً حتماً.