ماجد المرهون
majidalmrhoon@gmail.com
عندما نُريد تحديد قياس شيءٍ ما -أيًا كان نوعة- ولا نعلم طريقة وكيفية تحديد ذلك القياس، فإن أول ما يخطر على بالنا هو التخيل وعقد المقارنة بينه وبين شيءٍ آخر نعرفه، فمثلًا كلنا نعرف اللون الأبيض ولكن ما هو اللون الأبيض القياسي الذي يمكن أن نتخذه معيارًا للبياض لتحديد درجته النهاية؟! وكذلك ما هي درجة اللون الأسود الأكثر سوادًا لنعتبرها معيارًا ثابتًا للأسود الأشد قتامةً؟! حتى نتحرر من ضيق الكيف إلى سعة الكم ونخلص أخيرًا لإمكانية القول بأن ذلك المستوى هو الأبيض المطلق الذي يعكس كل الحرارة دون استثناء، وذلك هو الأسود المطلق الذي يمتص كل الحرارة دون استثناء، وربما لن تساعدنا العلوم في الوصول لهذا المستوى من المعيارية الثابتة؛ حيث إن الخيال يصور لنا وجود لونٍ أكثر سطوعًا فوق الأبيض وآخر أكثر عتامةً فوق الأسود، وعند الوصول إلى نهاية الأرقام سنضيف الرقم واحد إليه لتبقى حرية وضع إسمٍ جديد للرقم الأخير مستمرة إلى ما لا نهاية حتى يتدخل العلماء في يوم من الأيام لوضع قانون الرقم الأخير ليمثل بناءً للواقع بينما لا يمكنهم تقنين حرية التخيل.
بعد تلك المقدمة، وحتى نعي المبدأ الغربي في إطلاق الحريات دون تقييد، يتوجب علينا فهم معنى الحريات أولاً لنستخلص معيارًا ثابتًا يمكننا من خلاله قياسها وتحديدها ثم تقنينها وفصلها أخلاقيًا وسلوكيًا من توأم الوقاحة والرذيلة، إذ إنَّ الحالة الفضفاضة للحرية شبه المطلقة بلا معايير ثابته ستؤدي إلى ارتفاع سقفها بمرور الوقت مع تعددية الرغبات وتنوع الأهواء حتى تصل إلى منتهاها في امتهانٍ فجٍ للفطرةٍ السليمة واستخفافٍ فاقع بالعقول القويمة.
وحتى نفهم العنَت الغربي في الإصرار على قبول إزدراء معتقدات الشعوب الدينية؛ فلابد لنا أيضًا أن نفهم الفكر العام لديهم والطريقة التي يسير بها عقل الإنسان الغربي المعاصر؛ إذ يبدو مؤخرًا أنه قابلٌ بأمورٍ لم تكن مقبولة قبل مائةِ عامٍ تقريبًا وبدأت النزعة الدينية لدى سلطاته العليا بالتراجع إلى حدودٍ قريبةٍ من الصفر وتُملي عليه قوانينها المشرعة في أُطر حرية الرأي والتعبير، وبما أن العقل الغربي يناشد بالحرية في كل شيء فهو بطبيعة الحال سيقبل ما يُملى عليه من تلك القيادات الأقرب للإلحاد وإنكار الألوهية؛ كونه لا يحيد عن المسار الحقيقي لمفهوم الحرية المنشود.
لقد قبلت الحضارة الغربية الحديثة على نفسها فصل الدين عن شؤونها الحياتية والتشريعية بعد التاريخ الكالح لسلطة الكنيسة على الحقوق والعقول وقبلت شعوبها الإنتساب إلى الثقاقة المادية، وفاخروا بها فزاد غرورهم وعملوا بمكاسب الدنيا ونتائجها وعطلوا العمل للآخرة في مادية فاقعة تتقبل بكل إحترام معظم الأنماط المنحطة وتوقرها وتجد لها الأعذار والمسوغات، ولا أعلم إذا كان الانحطاط يحميه القانون تحت الجلباب الوساع لمذهب الحرية، ويبدو كذلك مع ثورة المثلية الجامحة؛ إن الحضارة الغربية الحديثة تنبذ العناية الإلهية في لاهوتها الطبيعي الذي تطور على مدار القرون الماضية من مفكريها وفلاسفتها والمؤثرين من العباقرة والعلماء ومن تطلق عليهم في بعض الأحيان إسم نبي ورسول، وقد لا تنكر وجود الخالق والخلق بالكلية، لكنها تنكر عنايته وهدايته من خلال وحيه ورسله وأنبيائه؛ بالتالي فإن الكتب السماوية لديهم ليست ذات قدسية مطلقة ولا يحملون التحريف فيها والتغيير المستمر الذي يطرأ عليها على محمل كبير من الجد، بل ويعتبر أمراً طبيعيًا لا يدعو للقلق ولا يشكل خطورة؛ حيث إنها كُتبت في وقتها بحسب السقف المعرفي آنذاك، وهي لا تتلاءم بالضرورة مع مقتضيات الحياة المتطورة على الدوام ويسقطون ذلك على كل الكتب السماوية، وهذا هو الدارج في فهم العامة لديهم مع استثناءات لا تكاد تذكر لدي بعض الخواص من أهل الحق فيهم، ولذلك نبذوا أصولية الإستناد إلى مرجعية الكتب السماوية وركنوا إلى قوانينهم الوضعية وتحديثاتها بحسب ماتمليه عليهم الضرورة وتنظيمات سلطاتهم العليا.
قال قديمًا رجل الدين بارونيوس: "الكتاب المقدس يأخذ بيدنا إلى السماء ولا يشرح لنا كيف تعمل السماء"، وهذا القول في عمق مفهومه الروحي قولٌ جميل ومعنويًا فيه دعوة للعمل وكشف أسرار الكون، ولكن مع تطور العلوم في بداية ثورة عصر التنوير في العالم الغربي دخلت محاولات إبطال الدين وعلم الغيب في حياتهم ومع كبار علمائهم مدخل التشكيك، والذي وصل في كثير من الأحيان إلى التكذيب وإعتماد العلمانية مذهبًا تقوم عليه حياتهم، وعلى رأس من لعب بفكرهم الهش المتقلب هو إسحق نيوتن؛ حيث كان تحيز الرجل الديني أكثر من تحيزه العلمي، إلا أنه في مرحلةٍ من المراحل خلص في إعتقاده بنموذج الفصل اللاهوتي بأن الإله خلق الكون وتركه يُدير ويسيِّر نفسه ولا يتدخل الخالق إلا في حالة الإصلاحات الضرورية فقط وشبه ذلك بالساعة عندما تتعطل فيتدخل الساعاتي لإصلاح الخلل؛ مما أثار عليه موجة من السخرية وسميت تأملاته لاحقًا بإله الساعات مع الإحترام طبعا لهذا العالم الكبير؛ كما أن تشارلز داروين كان من بيتٍ محافظ وعلى وشك أن يصبح رجل دين في الكنيسة إلا أنه وصل إلى مرحلة شارف فيها على الإلحاد مع نظرياته للتطور وأصل الخلق والتي أصاب جزء كبير منهما تأملات نيوتن في مقتل، وقبر الرجلان يقبعان بجانب بعضيهما في دير ويستمنستر كنوع من التكريم بدفنهما في هذا المكان.
كان عصر النهضة الأوروبي تمهيدًا للحداثة القادمة كما كان من أقسى العصور على العلماء والفلاسفة الطبيعيين بسبب تغول رجال الدين وبغيٍ مجنون لسلطتهم التي تصِم بالهرطقة كل من يأتي بعلوم تتعارض مع تيار الكنيسة الفكري؛ مما أدى لقتل العلماء وإحراقهم وحبسهم وإبقائهم تحت الرقابة والإقامة الجبرية، حتى وصل الحال في القرن السادس عشر بأن قام القس بول الرابع بفهرسة الكتب الممنوعة بذريعة أن مؤليفيها مولوثون بالخطيئة، وقد استمر هذا الفهرس بالتضخم حتى ضم 4 آلاف كتاب من ضمنها التوراة المترجمة، ليأتي بول السادس في ستينيات القرن الماضي ويقوم بإلغائه، نعم في القرن العشرين وهو من الأمور التي تدعو للغرابة والسخرية.
لقد اكتملت في القرن العشرين كل مقاربات العلماء ورجال الدين السابقين وجدلياتهم وفلسفاتهم وعلومهم، إلى أن وصلت إلى مسلماتٍ يُعتقد أنها ثابتةٌ لا تتغير ولن تقبل النقض في كثيرٍ منها كإنفجار الكون العظيم مثلًا وسرعة الضوء، وأن الكتب السماوية لا تعدو كونها مخاطبات روحية لا تؤدي غرض الاعتماد عليها في التشريع وإقامة حياة مدنية حديثة وتبقى كذلك لمن أراد الرجوع لها كنوع من الاطلاع والإثراء الثقافي؛ ولذلك لا يفهم العقل الغربي معنى حرق متطرف لكتاب من الكتب السماوية ولا يعي ذهنه العصبية والكراهية جراء ذلك ومن يقوم بهذا الفعل لا يقوم به إلا عمدًا من باب الكبر والغرور وتعمد إذكاء نزعة الكراهية وإشاعة روح البغضاء بقصد الإنتقام والتشفي المعنوي وما ضر ذلك بأحدٍ إلا نفسه ولن تعي أذهان معظم شعوب الحضارة الغربية معنى إحترام وقداسة تلك الكتب في ذاتها وليس فقط لمن يؤمن، وبذلك يكون آخر غطاء قدسية عليها قد نزع مع بغي سلطة الحريات، وللأسف أن يحدث كل ذلك مع علمهم المادي الدنيوي غير المسبوق، وإنما يدل على جهلهم الكبير بقصد أو دون قصد بالقرآن الكريم الذي شجع ولا يزال دون تحريفٍ على العلم والبحث العلمي والسير في الأرض والنظر في الخلق ويوائم بين متطلبات الحياة الروحية والمادية والدنيوية والأخروية ولم تسجل الحضارة الإسلامية في تاريخها ثورات هرطقة وتجديف على العلماء والمفكرين.
أخيرًا، فقد بات من الضرورة على كل المسلمين شعوبًا وحكومات اتخاذ موقف جادٍ وحازمٍ تجاه ماتقوم به بعض الدول الغربية من تعمد تدنيس القرآن الكريم في رسالة واضحة للكراهية والمعاداة من خلال السماح لبعض المتطرفين بمواصلة ممارساتهم الاستفزازية الصارخة والتي لا تعود على أحدٍ بخير، ولا بد من وقفة صارمة يُحدد فيها نوع الحريات الشخصية وحريات الرأي والتعبير ومداها في أُطرٍ قانونية فعلية، ولا يهمنا إن إتفقت عليها الدول الغربية ولن تتفق وذلك شأنهم ولكن سيكون لنا كمسلمين بعد ذلك حجة عند رفض القوانين الغربية والتي لا تتناسب ومعتقداتنا مقابل رفضهم لقانون "تدنيس القرآن ومعاداة الإسلام".
يقول جون بولكنجهورن عالم الفيزياء الذرية وأستاذ ستيفن هوكينج: "الدين بغير علمٍ أعرج، والعلم بغير دينٍ أعمى".