ونحن.. يا وطن؟!!

د. عبدالله باحجاج

الذات الجماعية للعنوان أعلاه، هي ذات الباحثين عن عمل، وهم رسميًا أكثر من مئة ألف باحث، وأعدادهم تتزايد سنويا وتتراكم، ويضيق الخناق السيكولوجي عليهم الآن بعد أن تأجلت منفعة الباحثين عن عمل من تطبيق منظومة الحماية الاجتماعية، وهناك الكثير منهم ما بين 30 و35 و40 عامًا، وصرختهم "نحن" لن تحجبها فرحة المنتفعين بمنظومة الحماية الاجتماعية، وقد جاءت هذه المنظومة بعد ثلاث سنوات من إصلاحات مالية مؤلمة اجتماعيا، وبالتالي فقد قننت المنظومة مجموعة كبيرة من الحقوق الاجتماعية لكلا الجنسين، ولمختلف الشرائح الاجتماعية سواء من حيث برامج الدعم النقدية أو التأمين الاجتماعي، لكنها تقفز فوق قضية الوطن الأولى.

وقد بدأ النسق العام لمنظومة الحماية الاجتماعية تستهدف في جوهرها الجيل الحالي؛ فماذا عن جيل المستقبل الذي يعبر عنه هنا صرخة "ونحن.. يا وطن"؟، مصلحته تكمن في الوظيفة أو منفعة البطالة / الباحثين عن عمل، وهما لا يؤجلان، هما أو على الأقل أحدهما، ويعد راتب البطالة / الباحثين عن عمل من أهم بنود منظومات الحماية الاجتماعية في كل الأنظمة الرأسمالية، ولا يبدو أن وراء تأجيل هذه المنفعة مساعي استثنائية مقبلة للتوظيف أو إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور "325"، مما يطرح التساؤلات هنا حول معايير تحديد أولويات منظومة الحماية الاجتماعية، وقد سمعت من أم منتفعة من منفعة كبار السن تقول لو أنهم منحوا هذه المنفعة للباحثين عن عمل لكان أصوب، وكان ذلك أجدر وأنفع للوطن في حاضره ومستقبله، هنا عاطفة ننقلها كما هي، رغم أن الحق ينبغي أن يكون عامًا وشاملاً، فمن حق الباحثين أن تشملهم حماية الدولة أسوة ببقية أفراد المجتمع.

فكل المواطنين يجدون أنفسهم ضحايا تحولات الحكومة المالية منذ العام 2020، وهي تحولات تعظم رأس المال "المحلي والأجنبي" وتمهد له التشريعات والقوانين في البلاد، وتمس مفاصل اجتماعية أساسية، كخفض الحد الأدنى للأجور إلى "325" وإغراق البلاد بديموغرافيات عربية وأجنبية، وأصبحت الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي عن الكثير من الخدمات الأساسية وترشيد الإنفاق العام، بما فيه الإنفاق الاجتماعي.. من مصادر دخل الدولة، حيث أصبحت إيراداتها متعاظمة، وترجح الفوائض المالية للموازنة السنوية.

ونشهد حتى الآن تداعيات لهذا التحولات المالية؛ مثل: اتساع دائرة المعوزين، وصرخات اجتماعية تعجز عن دفع فواتير الماء والكهرباء، وارتفاع معدلات الباحثين، وإحالة الكثير إلى التقاعد الإجباري، وخفض الرواتب.. وهذا تدخل في سياقات خدمة لرأس المال المحلي والأجنبي، ومن ثم جاءت منظومة الحماية الاجتماعية لتوفير الحماية الاجتماعية في الحد الأدنى لها، وتستثني فئة الباحثين عن عمل، وهم لهم الأولوية كذلك، ولو احتكمنا لمعيار تحصين المجتمع ومستقبل تماسكه، وثبات ولاءاته وانتماءاته في حقبة الجبايات والسياسات النيوليبرالية، سنخرج بأهمية فورية تطبيق منفعة الباحث عن عمل، وأنها قضية غير قابلة للتأخير، ولسنا ندري على ماذا اتُّخذ قرار التأخير حتى لو كانت هناك خطة مستعجلة للتوظيف، فهل تستوعب أكثر من مئة ألف باحث؟

وكلما نتعمق في المبررات التي تُشرِعن منظومات الحماية الاجتماعية في بلادنا، يتجلى لنا حجم الحدود الكبيرة والشاملة لمنظومة الحماية الاجتماعية، وتجعلنا نكرِّر التساؤل حول أسباب إقصاء منفعة الباحثين عن عمل من المنظومة؛ فكل الحسابات السياسية تدفع لأولوية منفعة الباحثين عن عمل، وأنها ينبغي أن لا تقل عن 150 ريالا شهريا، وأن تكون لها الأولوية ضمن الأولويات ذات الصبغة المستعجلة اجتماعيا وإنسانيا وسياسيا، وذلك على اعتبار أنها تشكل التحدي الأكبر خلال المدى المتوسط وطويل الأجل في ظل انفتاح البلاد الفكري والاستثماري والديموغرافي، وبطء عمليات توفير فرص العمل، فكان الأحرى استيعابه -أي التحدي- ضمن منظومة الحماية الاجتماعية.

وبنظرة حقوقية خالصة، فإنَّ منظومة الحماية الاجتماعية تعد أهم حقوق المواطنة في حقبة الجبايات وحرية رأس المال مع انتقال الدولة في بلادنا خاصة، والخليج عامة، من دورها الاجتماعي التقليدي السابق في حقبة الليبرالية، إلى الدور الاجتماعي الجديد في حقبة النيوليبرالية، ومن هذه الانتقالية، تُشرعن منظومة الحماية الاجتماعية في بلادنا من منظور الحق على الحكومات مقابل الواجب الذي أصبح المواطنون يؤدونه منذ ثلاث سنوات في عدة أشكال سالفة الذكر، وفي مقدمتها فرض الضرائب والرسوم ورفع الدعم الحكومي.

ومما تقدم، فإن صرخة "ونحن.. يا وطن" ينبغي أن تستقبلها كل الحواس السياسية في البلاد، وأن تعمل عاجلا على مسارين أساسيين؛ هما: الإسراع في توفير فرص العمل من خلال الاقتصاد الإنتاجي والإحلال والتدريب والتعمين، في ظل الوتيرة الخجولة التي تسير عليها الجهود الحكومية. والآخر: دمجهم مباشرة في منظومة الحماية الاجتماعية، والظرفية المالية مواتية، وحذرنا في مقال سابق من عدم الاستماع السياسي لكل ما يقوله الليبراليون المحليون والدوليون المؤثرون في صناعة القرار المالي في البلاد، فمالية البلاد مثالية، وتتعزز باستدامة التوجهات الاستثمارية المعاصرة خاصة في مجال الهيدروجين الأخضر وعودة أسعار النفط والغاز إلى عصرهما الذهبي.

كما أنَّ الضرائب والرسوم أصبحت تشكل مصادر دخل معتبرا ومستداما، فلا قلق على قضية الاستدامة المالية، كما يخوِّف بها الليبراليون، وكل من تابع الحصص المليونية للضرائب والرسوم..إلخ، فلن يقلق على قضية الاستدامة المالية، ومن إيرادات هذه الضرائب والرسوم تظهر منظومة الحماية الاجتماعية بمثابة إعادة دوران هذه الأموال على المواطنين بعد تحصيلها من جيوبهم، ولا يبدو الدوران لكل هذه الأموال، وإنما قد تصل إلى النصف أو أقل منه. مما يطرح تساؤلات موضوعية حول الإيرادات السيادية ومسارات إنفاقها في الحاضر والمستقبل، تبرر طرح تساؤلنا عن عدم إدراج منفعة الباحثين ضمن أولويات منظومة الحماية رغم استهدافها الحد الأدنى للحماية في ظل موجة الغلاء ورفع الدعم والضرائب والرسوم، ولن نشكك في النوايا الحكومية، وما إذا كان بعد خطوة منظومة الحماية ضرائب جديدة أو زيادة نسبة الضرائب الراهنة، فوضوح استحقاقات المنافع يعكس الغايات، ويستنطقها.

الأهم هنا، أنَّ أيَّ إيرادات مالية إضافية تضخ للمواطنين ستشكل متنفسا لهم، لعلهم يواجهون بها استحقاقات أساسية كفواتير الماء والكهرباء أو تعزيز متطلبات معيشتهم الأساسية، رغم أننا نؤمن بأن البلاد في وضعية مالية تجعلها تُعِيد النظر في الكثير من السياسات المالية ومنظومة التشريعات والقوانين التي اتُّخذت إبان الأزمتين النفطية وكورونا بصورة متزامنة مع تطبيق منظومة الحماية الاجتماعية مع تضمينها منفعة الباحثين عن عمل، عندها لن نتحدث هنا عن حماية الحد الأدنى للمواطنين في الحقبة الجديدة، وإنما عن الحد المعتبر اجتماعيًا، والرضا الشامل بمن فيهم الباحثين عن عمل، والمقدر للتحديات السياسية لمستقبل قضية الباحثين عن عمل، وهي لا يمكن تجاهلها.