على الخطوط الواقعية

سعيدة بنت أحمد البرعمية

النظر للأسفل من نافذة طائرة يظهر الأشياء على حقيقتها، نظرة تُسطّح الجبال والقصور وتُكبّر البحار والمحيطات وتحجّم الإنسان فيكاد لا يُرى، نظرة تُؤطر الأنا وتفسح المجال للتأمل، شعور بالترفع والسمو، ربما هو شعور الطيور المعتاد الذي يجهله الإنسان؛ فكلما رفرفت أجنحة طير فوق منزلي كانت ضبابية الرؤية بيني وبينه تخبرني أنه مخلوق صغير وأنا أفوفه في الحجم أضعاف أضعاف، أمّا هو فبالتأكيد العلو الذي بيننا يعزز في نفسه من حجمه ويجعله يراني في حجم الصخر لحظة الاقتراب فحجارة ثم حصاة كلما ابتعد، ويزداد صغر حجمي كلما زاد ارتفاعه إلى أن تأتي اللحظة التي أتلاشى فيها وأتساوى بالتراب.

على متن طائرة أنت لست على الخطوط الجوية فحسب؛ إنما على الخطوط الواقعية والخيالية معا، ربما هي رحلة مع الذات في حالة من الترفع والسموأكثر من كونها رحلة جوية بمسار معين، حيث تترفع الطائرة بك عن بيتك، أهلك، مدينتك فتراهم جميعا صغارا في نظرك بالضبط كنظرة الطير لك عندما يحوم فوق بيتك.

ساعات قليلة تخرجك إلى سماء غير سماء بلدك، تنظر للأسفل مرة أخرى فيتكرر مشهد التسطّح الأرضي والتأطير للكثير من الأمور في عينك، تعود للنظر للأمام وتغمض عينيك فتعيش شعور أنك تطير، وإن كنت في الواقع جالسا على كرسي الطائرة وهي التي تطير بجناحين صناعيين تقليدا للنشاط الحياتي للطير!

قد يُطوعك خيالك للوقوف على متن الطائرة وفرد يديك كجناحين وتحركهما كأنك أنت الذي تطير لا الطائرة؛ كمحاولة قد تنجح في عيش اللحظة بأدواتك الفيزيائية البسيطة وخيالك الواسع؛ ولكن سماعك لقهقهات الركاب من حولك يزهق حبل الخيال لديك ويعيدك للواقع"آدميّ على كرسي طائرة"؛ فتجلس معتبرا تلك القهقهات احتجاجا وخطابا شديد اللهجة، وُجه إليك اعتراضا لحالة الخروج عن المألوف التي تلبستك للحظة؛ فتبتسم بخجل وتلوم نفسك وتجلس ملبيا للاحتجاج.

ماذا لو أسقطنا النظرة ذاتها على ما يجري حولنا وفي حياتنا اليومية من مفارقات ومقارعات، أو ما يحدث في العالم من حروب وأطماع ومهاترات سياسية واجتماعية وإنسانية وثقافية، هل مستوى الخطاب المستخدم يتناسب مع المعايير الأخلاقية والإنسانية وتظهر من خلاله كما يجب أن تظهر، أم يسطحهها وتتلاشى مع الزمن؟

"الراقصة والسياسي" قصة من تأليف إحسان عبد القدوس حولها الكاتب وحيد حامد إلى فيلم سينمائي من إخراج سمير سيف، يعطي الفيلم نظرتين متباينتين للأمور، حيث يتفق السياسي والراقصة لحظة اتحاد الغرائز وتختلف نظرتهما للأمور بحسب خبرة وفكر كلّ منهما في الحياة وشجاعته في مواجهة المجتمع، هو نظرته مسطحة وإن تحدّبت قليلا سرعان ما أعادها إلى نصابها، وهي تجربتها القاسية في الحياة وانتمائها للعنة الفقر خلق منها راقصة بارعة يلوذ إليها أصحاب السلطة والنفوذ عندما تتأجج غرائزهم، ويتنكرون لها عندما تخلع بدلة الرقص وترتدي إنسانيتها، جعلها ذلك قريبة من رؤية الأشياء على حقيقتها وهو ما مكّن الجانب الإنساني في ذاتها، ولم تسطتع التخلّص منه بعد أن صارت غنية وهذا ما جعلها تصر على بناء مركز للأيتام، في المقابل تعاملها مع الرجال من ذوي السلطة كشف لها عن هشاشة الجانب الأخلاقي والإنساني لديهم، واستغلالهم السلطة للوصول لمبتغياتهم والتستر على تجاوزاتهم الأخلاقية والانتهازية.

أتذكر جيدا حوار الراقصة للسياسي عندما رفض أن يتوسط لها لقبول مشروعها الخيري الذي لم تتم الموافقة على إنشائه؛ خوفا من أن تكون مخرجات المركز أجيال من الراقصات، وهو باللهجة المصرية كالآتي:

هي: كلّ واحد منّا بيرقص بطريقته، أنا بهزّ وسطي وأنت بتلعّب لسانك وتخطب.

هو: الفرق شاسع يا عالمة.

هي: الفرق إنو رقصي له جمهور ورقصك مالوش جمهور.

هو: لأن بضاعتك رخيصة، إنت شغلك الإثارة.

هي: اسم الله على مقامك الرفيع وأنت شغلك إيه، لما توعد الناس بمستقبل مشرق ويجي بكرة ما يطلعهوش شمس!

ربما أول رحلة سافرتها كانت منذ عهد مبكر في حياتك، وأنت في مكان ما مسطّح من الأرض، أقلعتْ منك واتجهتْ إليك ويقودها خيالك، وعلى متنها ضجيج أفكارك، تقلع وتهبط في مدرجات فكرك حسب حركة وضغط الوهم أو الحقيقة اللذان تقفُ على بساطهما.   

قد تكون الرحلة معي في هذا المقال شاقة؛ كونها على الخطوط الواقعية، ابتداء من النظرة للأمور من زوايا معينة مرتفعة ومنخفضة وصولا إلى قصة إحسان عبد القدوس، ولكن بإمكانك أن تعتبرها فسحة فكر.