د. عبدالله باحجاج
تتجاوز دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بنجاح أزماتها المالية والبينية السياسية بعد عودة أسعار النفط إلى الارتفاع، واكتمال المصالحات بتبادل السفراء بين أبوظبي والدوحة، وهذه الأخيرة والمنامة، واستئناف الرحلات المدنية الجوية بين المنامة والدوحة، وربما تكون الأزمة المالية قد دخلت الآن ضمن الملفات التاريخية رغم استمرار هواجسها السياسية، وهي مشروعة، لكن لا ينبغي الاستماع لكل ما يقوله الاقتصاديون الليبراليون المؤثرون في صناعة القرار المالي على صعيد كل دولة خليجية، أو من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين؛ فالتحولات والمتغيرات الكبرى التي تصنع الخليج الجديد ينبغي أن تحكمها المصالح الثلاثية التالية "السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، بلا إفراط أو تفريط.
وما نشهده من جنوح السياسات المالية هو نتيجة إدارتهم للملف المالي والاقتصادي منذ 2020؛ فمهمتهم فرض النظام النيوليبرالي عبر إقامة نظام اقتصادي رأسمالي بأقل الضوابط، وصياغة منظومة ضريبية متكاملة في كل دولة مهما كانت إيراداتها السيادية، ولهم في ذلك هدف سياسي، وهو جعل أغلبية المجتمعات في الخليج غارقة في هموم يومية، ومنشغلة بفردانيتها الضيقة بحيث لا تتمكن في التفكير بقضايا أخرى سواء وطنية أو فكرية... إلخ.
وقد برزت تداعيات سريعة لهذه السياسات، وهي متصاعدة ومتغلغة، فقد رصدنا حالات شبابية كل تفكيرها ماديٌّ فقط، ويدفعها إلى صراعات من منظور الماهية الميكافيللية -المال مهما كانت الوسائل- وشهدنا كذلك نماذج مقلقة في الفردانية، فتفكيرها في الماديات طاغِ وبصورة غير عقلانية دون مصالح الجماعة والدول الخليجية، وهنا مؤشرات قوية للانفتاح على كل المتناقضات والمتعارضات الفكرية والأيديولوجية، وبذلك سيكون جيل الشباب مرناً وسهلاً في جذبه واستقطابه عبر جعل ظروفه المالية والأسرية الصعبة سببا قهريا للتنازل عن كل مفهوم وطني واجتماعي وأيديولوجي.. تم تأسيسه خلال العقود الماضية، فلن تصمد طويلا؛ لأن الحاجة المالية أقوى.
وفي ذلك ضمانة لنجاح الأجندات السياسية والأيديولوجية في الاستقطاب والجذب، ومن ثم الارتماء في أحضانها، وقد أصبح أصحاب الأجندات الملونة في كل دولة خليجية -مع التفاوت- يستغلون الأبواب المشرعة للمستثمرين، ويدخلونها الآن بكل اطمئنان وثقة، مما ظهر لنا المشهد العام بأن وراءه تسييسًا دوليًّا داعمًا لمثل هذه التحولات، ولا يمكن هنا الحديث عن نوع واحد من الألوان السياسية والأيديولوجية، بل مجموعة ألوان قديمة وحديثة، الكل ينشط الآن داخل المجتمعات الخليجية الست.
ومن زاوية ترابية داخل الجغرافيا الخليجية، رصدنا مسارًا لتغلغل سيطرة الأجانب على إدارات المدارس الخاصة، وتحوم حول بعضها علامات استفهام كثيرة حول الترويج لأيديولوجيتها في صفوف الطلاب...إلخ، وعلى مستوى عموم الخليج كذلك يمكن ملاحظة تنامي ظاهرة نسخ المدارس الأجنبية الدولية بأطرها وكوادرها ومناهج ومواد تأطيراتها للطلاب، وفي سن مبكرة جدا، كما سيستغلون وجودهم القانوني في الخليج سواء عبر شركاتهم أو مؤسساتهم الفكرية حاجة الجيل الخليجي للعمل والمال.
وما اتخذته الدول الخليجية الست منذ العام 2020 من خطط وسياسات مالية لمواجهة تداعيات أزمتي النفط وكورونا قد ضعفت مجتمعاتها، ويتواصل إنتاج الضعف البنيوي فيها مع ما يترتب عليها من آلام يومية على الفرد وأسرته، وهي بالتالي تُعيد صناعة المجتمعات بأدوات مالية وقانونية ضاغطة على الفرد وأسرته، في الوقت الذي تطلق فيه الحريات المدنية بصورة متفاوتة بين العواصم الخليجية، وهي بقدر ما تضعف المجتمعات ماليا وأيديولوجيا، تصنع في سيكولوجياتها الاكتئاب والإحباط والقلق من الحاضر والمستقبل، وهنا تساؤل لابد أن تطرحه كل عاصمة خليجية الآن، وهو: هل الاستمرار في نفس الخطط والسياسات التي اتُّخذت لمواجهة أزمتي النفط وكورونا تحافظ على التوازن الاجتماعي أو صالحة اجتماعيا لمرحلة ما بعد الأزمتين في ظل انفتاحها على الخارج؟
يطرح التساؤل في ظل حقيقة ثابتة ينبغي أن لا تغفل عنها الأنظمة الخليجية مهما كانت مبررات تحولاتها المالية والاقتصادية وإصلاحاتها الاجتماعية، وهي أن الأنظمة في الخليج لا يمكن أن تستغني عن أهم ركن من أركان الدولة الأساسية، وهي الديموغرافيا / السكان؛ وبالتالي لا ينبغي أن يصل تفكيرها السياسي إلى التسليم بشرعية منافستها من قبل لاعبين أساسيين -دول أو منظمات أو نخب- داخل المنطقة الاجتماعية، وحتى انفتاحها الاجتماعي ينبغي أن يكون محكومًا بتشريعات ذكية تضمن الحقوق الأساسية للمواطنة، وتعمل على تحصين أيديولوجية مجتمعاتها.
وهاجسنا الكبير يدور حول كيف نجعل ارتباط الديموغرافيا الخليجية بأنظمتها خاصة وبلدانها عامة في عصر الضرائب والرسوم؟ لأن الاستقرار الاجتماعي يمثل للأنظمة غاية وجودية ووجوبية مهما كانت ضماناتها الأمنية والعسكرية الإقليمية والدولية، وهذا يرجع إلى نموذجها التنموي الجديد، ربما أن هناك حاجة سياسية إلى دراسة نتائج وسلبيات هذا النموذج عاجلا بمشاركة عقول مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية، قد نتفهم مبررات تلكم الخطط والسياسات إبان تلكم الأزمتين، فهي تعد خطط وسياسات طوارئ، ولا يُمكن أن تكون من أدوات صناعة المستقبل الجديد في الخليج.
يُمكن أن يصلح بعضها لمرحلة صناعة هذا المستقبل، والأخرى سلبياتها السياسية على الدول الخليجية ستكون أكبر من عوائدها المالية، ولن تفيد هذه الأخيرة لاحقاً أن تصلح ما أتلفته سابقًا؛ لأنها تشتغل داخل مناطق اجتماعية شفافة جدا، وحساسة جدا، وقابلة للكسر، وإن كسرت فإن إعادة إصلاحها أو بنائها، لن تكون كما كانت قبل الكسر، وما يعظم من المخاطر المحدقة بالخليج، التلاقي بين انعكاسات إصلاحاتها المالية والاجتماعية على مجتمعات الدول الخليجية، وبين فتح بلدانها للاستثمارات متعددة الجنسيات، ودخول أفكار وأيديولوجيات متشددة، قد أصبحت أغراضها السياسية واضحة للكل.. إلخ.
ويُمكننا القول الآن وبعد ثلاث سنوات من تطبيق السياسات المالية، أن دول الخليج تواجه تحولين إستراتيجيين؛ الأول: فقدان التوازن الاجتماعي حيث سيعجز الآلاف إن لم يكن الأغلبية عن تأمين أساسيات العيش الكريم بسبب الغلاء والرواتب المحدودة والبطالة...إلخ، ولنا في تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" عن الفقر في الخليج ما يمكن البناء عليه لرسم خارطة عن حجم المخاطر الناجمة عن التحولات المالية.
والثاني: عولمة بوصلة المجتمعات الخليجية، بعدما كانت رأسية أحادية الاستقطاب، وتحتكرها الأنظمة، ستصبح الآن أفقية متعددة الاستقطابات الداخلية والخارجية، ومعولمة؛ ففي هذا الأفق الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، بعضهم قد استقر في الخليج مؤخرا، وله كياناته المالية والفكرية والأيديولوجية، ولها أجندات سياسية وأيديولوجية طويلة الأجل في المنطقة، هي لم تأتِ للتجارة والاقتصاد فحسب، وإنما عن طريقهما ستسعى لاحتواء الجغرافيا والديموغرافيا.
ولو تُرِكُوا سينجحون، فهم يملكون الأموال والخبرات لجذب مسارات البوصلة إليهم، وقد رصدنا في بعضها حالة إغراق ديموغرافي أجنبي مقلق ومؤثر على ديموغرافياتها الوطنية ومنظومتها القيمية؛ ففي دولتين خليجيتين مثلا، يبلغ نسبة الأجانب أكثر من 88% و87% من إجمالي عدد السكان في اختلال خطير له مخاطره المنظورة والمستقبلية، ومن اللافت الآن أنَّ بقية الدول الخليجية تسير على نفس تجربة الإغراق الديموغرافي للدولتين المشار إليهما سابقا، ولم تقم بدراسة تأثيره السياسي والاجتماعي، وفي حالات ينبغي أن نستدعي احتمال تأثيره على مستقبل كيانات الدول.
ومن اللافت كذلك أن جل انشغالاتها الراهنة تنصب على المدى الطويل على حساب المدى القصير والمتوسط -من المقال السابق- مما يترك المنطقة الاجتماعية خلال هذين الأجلين لأجندات داخلية وإقليمية ودولية، مما قد نشهد معه -خلال هذين الأجلين- تحول البوصلة الاجتماعية نحو المسار الأفقي عِوضًا عن المسار الرأسي، اتجاهاته متعددة خاصة لجيل الشباب، وستكون نحو لمن يملك المال والوظائف، وقادر على احتوائهم في ظل تراجع دور الحكومات، وندعو كل دولة خليجية إلى دراسة هذا الملف عاجلا، قبل أن تترسخ تداعياته داخل المنطقة الاجتماعية.