حاتم الطائي
◄ الدبلوماسية العُمانية تقود نهج الحياد الإيجابي في المنطقة والعالم
◄ البوصلة العُمانية تُرشدنا إلى طريق النماء والاستقرار والرخاء
◄ العلاقات المتوازنة مع الشرق والغرب منطلقنا نحو النهضة الشاملة والمستدامة
أحدثتْ مجريات الأحداث حول العالم خلال السنوات الأخيرة شرخًا عميقًا في طبيعة العلاقات الدولية؛ إذ تفاقمت حدة الخلافات، وتوسعت رقعة الصراعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، واشتعلت المواقف في العديد من البلدان، وشهدت دولٌ في مناطق عدة من العالم تغيرات سياسية جذرية، فرحلت أنظمة وحلّت أنظمة أخرى، وبلغت الأحداث ذروتها بأزمة الحرب الروسية الأوكرانية، وما خلّفته من تداعيات أثرت على جميع دول العالم، الغنية منها والفقيرة.
وفي القلب من هذه المُتغيرات، نجحت دبلوماسيتنا العُمانية العريقة -بفضل الثوابت الوطنية التي ترتكز عليها- في الالتزام بموقف متوازن وسياسة خارجية مُحايدة، لا تميل إلى طرف على حساب آخر؛ بل تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وبما يخدم المصالح الوطنية، لا غير. وعلى الرغم من الانحيازات التي أعلنتها دولٌ بعينها في مثل هذه الصراعات، وتلويح بعض الدول الكبرى بتطبيق سياسة "صديقي أم عدوي"، إلّا أنَّ الدبلوماسية العُمانية، احتفظت بالمسار الذي تحدده البوصلة الوطنية، النابعة من الإيمان العميق بأهمية ترسيخ التعاون الدولي على أساس تحقيق المصالح المشتركة، وإطفاء نيران الخلافات، وإخماد لهيب الحروب، وتعزيز علاقات التعاون، ودفع مسيرة الشراكة نحو آفاق أكثر رحابة تخدم جميع الأطراف.
هذه البوصلة تمكنتْ من أن تحفظ لعُمان مكانتها الراسخة التي حفرتها على جدار التاريخ بمداد من ذهب؛ حيث لم تنحرف البوصلة شرقًا أو غربًا، وظلتْ تُرشد البحّار العُماني الذي يمخر عُباب هذا العالم المتلاطمة أمواجه، بكل احترافية وجدارة، حتى أضحت السياسة الخارجية لعُمان مثالًا يُحتذى به، وأنموذجًا تقتفي الأمم والشعوب أثره، في تجسيد رائع للمفاهيم السامية التي تطبقها دبلوماسيتنا العريقة، والمتمثلة في السلام والوئام والتعايش.
نقول ذلك والأوضاع تتغير من حولنا، وقد بات انبلاج فجر جديد على عالمنا وشيكًا، فالمخاض العسير الذي يمر به النظام العالمي، للانتقال من مرحلة "القطبية الأحادية" إلى مرحلة "الأقطاب المُتعددة"، يفرض على جميع الدول معركة تحديد الهوية والمصير، ببساطة أن العالم الجديد الآخذ في التشكُّل يقول للدول: هل تسيرون غربًا؛ حيث أوروبا المُثقلة بالأزمات، والولايات المتحدة التي تمر بمنعطفات خطيرة تطال حتى المنظومة الرئاسية والنيابية، أم شرقًا؛ حيث الدب الروسي الذي يسعى لاستعادة مكانته الدولية، كقطبٍ فاعل في صناعة القرار العالمي، والصين التي نجحت في نشر بساط التنمية والعلاقات الاقتصادية النافعة مع مختلف دول العالم؟!
عُمان استطاعتْ أن تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وتحظى في الوقت نفسه بتقدير واحترام هذه الأطراف الدولية، وهذا نابع من أصالة الموقف العُماني، والتزامها الحياد الإيجابي، كخيار استراتيجي لا بديل عنه. وقد نجحت الدبلوماسية العُمانية كذلك في التأثير داخل محيطها الإقليمي (الخليجي والعربي)؛ بل والعالمي، بأن عززت من الموقف المُحايد في السياسة الدولية، ونجحت في قيادة تيار عالمي مُحايد، ينأى بنفسه عن أي صراع، ويسعى لتقريب وجهات النظر دونما انحياز مع أو ضد.
وقد تجلى ذلك خلال أعمال الاجتماع الوزاري السادس للحوار الاستراتيجي بين دول الخليج وروسيا، والذي ترأسته سلطنة عُمان في إطار رئاستها للدورة الحالية من اجتماعات مجلس التعاون الخليجي. هذا الاجتماع برهن على مستوى العلاقات الطيبة والمتوازنة مع جمهورية روسيا الاتحادية، لا سيما وأن عُمان أكدت على أن الشراكة الخليجية مع روسيا تستهدف ""بناء مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا"، وذلك دليل على الآفاق الإيجابية لمستقبل هذه العلاقات، بغض النظر عمّا تمر به روسيا من ظروف الحرب في أوكرانيا.. فدول الخليج تسعى للاستفادة من إمكانيات روسيا في مجالات الأمن الغذائي وأمن الطاقة العالمي، خاصة وأن صادرات القمح الروسي تمثل حصة لا تقل عن 20% من حجم صادرات القمح عالميًا، علاوة على إسهامها في استقرار أسعار النفط العالمية؛ إذ تُنتج روسيا وحدها ما يصل إلى 10 ملايين برميل يوميًا من النفط الخام، بينما تضخ في الأسواق العالمية نحو 5.2 مليون برميل صادرات نفطية، وتمثل روسيا لاعبًا رئيسًا في تحالف "أوبك بلس"، الذي نجح باقتدار في الحفاظ على مستويات أسعار عادلة للمُنتجين، وقد حققت عُمان ودول الخليج منافع إيجابية بفضل التوافق الخليجي الروسي بشأن معدلات إنتاج وتصدير النفط الخام؛ الأمر الذي عزز من كفاءة أداء الميزانيات العامة للدول، ومنها عُمان؛ حيث نجحت في تحقيق فوائض مالية بعد سنوات من العجز المتراكم.
الأمر نفسه ينطبق على العلاقات العُمانية والخليجية مع الصين، فرغم التوتر في العلاقات بين الصين والغرب بقيادة الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بملف التجارة الدولية وقضية تايوان، إلّا أن عُمان ودول مجلس التعاون الخليجي أعلنت موقفًا واضحًا يتجلى في تأكيد حرية حركة التجارة ورفض أي إجراءات عقابية أو حمائية أو احتكارية، علاوة على تأكيد التزامها بسياسة "الصين الواحدة"، ورفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومنها الصين. وهذا ما ساعد في بناء علاقات متوازنة مع الصين، رغم العلاقات الاستراتيجية الكبيرة بين دول الخليج والولايات المتحدة. وقد تفهّمت واشنطن هذه السياسة الخارجية المُتزنة والمتوازنة لدولنا الخليجية، وأدركت حقيقة حرية الدول في بناء علاقاتها الاستراتيجية، دون إملاءات أو فرض وصاية. وهذه العلاقات الإيجابية مع الصين، نجحت في أن تضع عُمان ومنطقة الخليج ضمن أولويات السياسة الخارجية الصينية، فقد تعاونت بكين مع مسقط في تقريب وجهات النظر بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وانتهى ذلك التعاون الدبلوماسي الإيجابي البنّاء بإبرام اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين اثنين من أكبر الدول في إقليمنا؛ السعودية وإيران.
المصالح العُمانية والخليجية ومن ورائها المصالح العربية أيضًا، تستهدف الاستفادة من علاقاتها الخارجية مع جميع الدول؛ بل إنها ستتضرر إذا ما انحازت لطرف على حساب آخر، ولذلك نظل دومًا نتحدث عن الحياد الإيجابي، والذي يقوم في جوهره على التوازن في العلاقات الدولية، دون إفراط أو تفريط في الحقوق والواجبات، التي تفرضها القوانين وقواعد العلاقات الدولية. وهذا الحياد الإيجابي يفرض علينا جميعًا مواصلة الالتزام به، لأنَّ ثمّة منافع أخرى (غير سياسية) تتحقق على مستويات عدة، في مقدمتها جذب الاستثمارات الأجنبية، فالجميع يُدرك حجم التسهيلات والمزايا التي تقدمها سلطنة عُمان للمُستثمرين؛ سواءً في صورة حوافز استثمارية جاذبة، أم في قوانين وتشريعات مرنة تساعد المستثمر الأجنبي على ضخ أمواله في مشاريع واعدة، فضلًا عن بنية أساسية مُتقدمة للغاية، وعمالة وطنية ماهرة، وتسهيلات في استقدام ما يحتاج إليه من عمالة أجنبية.
ولا شك أن وجود بيئة استثمارية آمنة ترتكز في أساسها على الاستقرار السياسي، والعلاقات الإيجابية المتوازنة مع جميع دول العالم، والأهم من ذلك التقيد والتمسك بالحياد الإيجابي الذي يخدم مصالحنا الوطنية دون أي انحياز، وبعيدًا عن أية ضغوط سياسية مُتغيّرة، وفي منأى من أي تجاذبات وصراعات عبثية لا تلبي أهداف التنمية ولا تستجيب لاحتياجات المواطن في الاستقرار والرخاء والنماء.
ويبقى القول.. إنَّ العلاقات الإيجابية المتوازنة مع مختلف دول العالم، ولا سيما القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا، يجب أن تمثل الاتجاه الآمن في بوصلتنا السياسية والاقتصادية، دون انحراف عن المسار الواضح الذي يضمن تحقيق التنمية الشاملة والمُستدامة، ويُساعد دولنا على تحقيق نهضة شاملة، بعد سنوات من الصراعات والحروب والأزمات، فقد آن الأوان لدول الخليج أن تقود التنمية العالمية خلال العقود المقبلة، بفضل ما تزخر به من مقوّمات وإمكانيات إذا ما وُظِفَت التوظيف الأمثل، ليعُم الرخاء والازدهار والسلام إقليمنا.