ذكرياتنا بين الوقار والطيش

 

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

لطالما شعُرت بحاجتي لتذكر مواقف الطفولة المُبكرة، ولطالما أسعدتني الذاكرة ببعض ذلك، أشعر حينها بقيمتي وأنعم براحة وسكينة، وقتها كنت أمتطي سجية فطرية لا أقدر على مداراتها أو النأي عما يصدر منها في تصرفاتي وسلوكي اليومي، وعليَّ -في ذلك الوقت- تحمّل النتائج، لكنها الآن فعلاً للتأمل والتعلم ومنفذا مؤديا للحلم والوقار.

اشتبكتُ بالأيدي صغيرا مع من يصغرني سناً، أذكر تلك الحادثة وكأنها أمامي، وكأن أوارها يؤثر في ذاتي حتى اليوم، وهي ليست بذات شأن على العموم، ليست بذات شأن في سبب نشوبها ولا فيما أفضت إليه من نتيجة خصوصا وقد ربطتني بخصمي وشيجة الجيرة، بدأت المعركة تحتدم ولأنه أصغر سنا فقد كان الحماس يثور منه أكثر مني؛ فأقدم على شق ثوبي من أعلاه لأسفله، فقدمت على نفس الفعل وكلنا على علم بحال أسرنا لكن الغضب يورث الجاهلية، ذكرني هذا الموقف بحرب البسوس التي استمرت سنوات طويلة وكان سببها الأساسي هو قتل ناقة من الطرف الآخر.

الأسباب الواهية تفقد العقل اتزانه وتُعلي من شأن الذات وهي على العموم في غنى عن كل ذلك، لكن التفاهة تقودنا لتبني أفكار شاذة وغير مكتملة في كثير من الأحيان، لعل اتزان العقل هو جوهر اتخاذ القرارات الصائبة، ولعل اتخاذ مثل تلك القرارات يغيب عن الصبية الصغار لأنهم فاقدوا الأهلية، أما الكبار فعليهم حرج كبير، ويؤخذ عليهم، أي الكبار، عدم التعلم من الظروف المشابهة عندما كانوا صغاراً، وتصيبنا الدهشة من تفشي المواقف التي تغيب فيها الحكمة وتُعلي من شأن العصبية المقيتة، ولعلنا في هذا العمر وتراكم الخبرة نجنح إلى الاتزان وتوخي الحيطة في مسألة إطلاق الأحكام.

ليس من السيئ تذكر مواقف اللهو الصغير في أماكن عيشنا؛ فهي في هذا الوقت كبلسم عفوي تتشافى به النفس وتتعافى الأفئدة التي قرحتها السنون، وليس من الحكمة النظر إلى الأمام بشكل مستمر لأنه يفتقد الإيثار وتعلمنا هذه النظرة عدم الاكتراث بما حولنا، وهي حالة إنسانية غير متقبلة، أما النظر في المؤثرات الأخرى فيمدنا بالمعرفة أكثر، ولا يجدر أن تكون أداة تشتيت وتفرق، بل تجعلنا نتطرق لمواضيعنا بشكل أكثر إلماما وخبرة، أما لو اقتفينا مواقفنا القديمة، والتفتنا قليلا للخلف؛ فقد نزداد خبرة ونتعلم منها ما يجنبنا الوقوع مرة أخرى، المواقف السابقة كالدروس حتى ولو كان زمنها مختلف وأوانها انتهى، فمن شيمة الزمن التكرار، تتكرر معنا مواقف الطفولة بطريقة أو بأخرى ونحتاج أن نقف مع كل مقام لنزجي إليه مقاله.

لطالما كانت الذكرى مرادفة للوقار لأنها تُعلِمُنا الكثير منه؛ فاصطدامنا بالكبار ورعونة سلوكنا يضمر قليلا قليلا بشكل طبيعي مع الوقت، لكن تذكر ذلك يهذب الأمر أكثر، ويعلي من شأن العقل ويستدرجه للحاضر، هذا يعني أن الجزء المسؤول عن التذكر يعمل، مما يتيح الاستفادة منه بشكل أكبر.

هذه المؤثرات تجعل العقل يراجع نفسه، يسكن، يفكر، يهادن، يقارن ويستشير ثم يقرر، يستشير أبجدياته ويُعمل المصلحة العليا، المصلحة البينية، مصلحة الذات، مصلحة المجتمع، المصلحة الإيجابية التي تعود بالنفع بين الطرفين المتخاصمين.

لا شك أن شجارات الأطفال ليست سيئة على نحو حاد بل تتسم بصفات تربية يتعلم من خلالها الطفل طريقة السلوك الذي ينبغي توزيعه على عقولنا لنفرق في التعامل بين شخص وآخر، وهو أمر أجده مستساغا، بل لا يقف مع السلوك فقط حيث يرسم مبادئ وصفات قد يحملها الطفل معه نتيجة استقباله موقفا معينا من أقرانه كالحلم والرعونة، أو الصدق والكذب وغيرها.

وذكريات الشقاوة الصغيرة تحتم علينا الكتمان، وهي في بئر لا تطولها يد إنسان لكنها منبع نستقي منه وقارنا، سلوكنا، تستفز فينا تصرفات البعض ثم تعلمنا طريقة التعامل معها بدل رفضها واستنكارها كونها مرت علينا ونحن صغار، أغلب الأحداث مكررة لكنها بصفحات جديدة وبطرق جديدة أخذت عصرها الحالي ولو كانت مكررة.

وعودا إلى اشتباكي النادر مع خصومي المفترضين؛ فقد أيقنت أن العتب على العقل، وكما يقال العقل زينة لكنه ليس كذلك في قرآننا لأنه ركيزة الفرد وليس كالمال والبنون؛ فالعقل يؤدي إلى جنة أو نار لأنه مقياس التفكير والحكمة، والعقل هو ربان الإنسان الذي يقوده نحو حتفه إن كان بائسا أو سديدا، وعلى هذا يمكننا قياس معظم تصرفات الأفراد في مجالات أعمالهم ووظائفهم، كل التصرفات والسلوكيات قادمة من إرث سابق سواء من خلال التعامل مع الأقران أو التشبه بأخلاق أهل بيته، أو قراءاته ومسلماته التي اصطبغت هي الأخرى بماضي الفرد، وملخص القول أن ماضينا يلاحقنا ولا مرد عنه إلا بالتعقل والتمعن كثيرا فيه وأخذ الحكمة منه والتصرف على أساس ما نجنيه من تعاليم قد تنفع وقد تضر مجتمعاتنا التي نعيشها، إتزان وحصافة أو حمقٌ وطيش.

تعليق عبر الفيس بوك