جدلية الحاضر والمستقبل في بلادنا.. فأي علاقة تؤسس بينهما؟

 

 

د. عبدالله باحجاج

كل تصريحات المسؤولين تركز على مستقبل البلاد من منظور طويل الأجل، وتحاول أن تجعل المواطن يعيش أو يتعايش مع هذا المستقبل على الورق من الآن، وبأحلام ما يرسمه المستقبل من رفاهية مطلقة قياساً بواقع معيشة المجتمع الآن، لكنها لم تنجح في صناعة الأمل الاجتماعي للجيلين "الحالي والمستقبلي"، فلم تنقلهما من واقعهما الحالي إلى المستقبل الموعود؛ لأن ما بين الحاضر والمستقبل عدة عقود، وتباينا شاسعا في الأوضاع المعيشية الراهنة والمتخلية ورقيًا، ولأنهما -أي الجيلين- يشتركان في معاناة مع الحاضر، وهي مُركَّبة وانعكاساتها ملموسة أوضاعهما الحياتية والسيكولوجية، ولن يتمكَّنوا من رفع تفكيرهما لهذا المستقبل في ظل الإغراق في الحاضر بتفاصيله اليومية.

ومن تلكم الجدلية، بدأت التصريحات تُخاطب الخارج أكثر من الداخل، وكذلك تخاطب جيل الطبقة الثرية بمختلف ديموغرافيتها العمانية والأجنبية؛ وذلك على اعتبار أنَّ السلطنة قد أصبحت مفتوحة لكل المستثمرين، وتسمح لهم بحق التملك الحر للعقار في المجمعات السياحية والسكنية المتكاملة الخدمات، وتوطن مدارس عالمية بمفاهيمها وقيمها التربوية وبثمن عالٍ، لن يقدر أغلبية أولياء الأمور على دفعه، وتؤسسها في عملية موازية لتعليمها العام بكل سلبياتها المتراكمة.

وهنا منطقة استشراف لإنتاج وضعين اجتماعيين مختلفين تماماً في الماهيات والأشكال، وهذا من بين الأسباب التي تجعل أغلبية المجتمع تشعر بأنها خارج نطاق استهداف المعاصر، ودعونا هنا نقرب هذه المسألة قليلا، ونتساءل: هل الآلاف من الباحثين عن عمل الذين يتخرجون سنوياً، وأصحاب المرتبات المتدنية، والكثير من المسرحين، ستدخل عقليتهم خطابات الحياة السعيدة التي ستتحقق على مدى زمني طويل الأجل، وهم غارقون في المعاناة؟ وهنا قمة العقلانية في تصوير هذا المشهد، وبالأرقام، كيف يمكن أن تنقل أكثر من 88 ألف عامل في القطاع الخاص مرتباتهم ما بين 325 وأقل من 400، وأكثر من 51 ألفا مرتباتهم من 400 إلى أقل من 500...إلخ.

كيف بمجتمع غارق في هموم يومية، تهز أركانه فاتورتا الكهرباء والماء، يُمكن أن تنقل الخطابات الحكومية إلى مستقبل طويل الأجل؟ والاستشراف هنا يذهب إلى تأسيس مجتمع بطبقتين متباينتين، بل ومتعارضتين؛ إحداهما تشكل الأغلبية الديموغرافية، والأخرى الأقلية، وسيكون الفارق المعيشي والاجتماعي بينهما حجمَ المسافة بين الأرض والسماء، وهنا تكون هذه الخطابات في واد، والمجتمع في واد آخر، لا يرتبطان بديموغرافية الحاضر، وإنما بمستقبل الديموغرافية متعددة الجنسيات، وللاستدلال أكثر لتعميق الاستشراف، نتساءل: هل رواتب الشباب سالفة الذكر الآن أو مستقبلا ستمكِّن الجيل الجديد من شراء منزل في المجمعات السكنية متعددة الأغراض؟

والسؤال الوطني الذي ينبغي أن يُطرح، هو: وماذا عن حاضر المواطنين في الأجلين القصير والمتوسط؟ من الملاحظ أنَّ هناك جنوحا نحو البناء والتنمية طويلة الأجل، ولا يوجد حدود مقبولة للتوازن بين الآجال الزمنية الثلاث "القصيرة، المتوسطة، طويلة الأجل" والجنوح نفسه نجده نحو تغليب الجانب المادي للبناء والتنمية في تراجع ملحوظ عن الجانب الديموغرافي "الوطني"، وعندما نتعمَّق في بعض مفاصلها، نجده -أي الجنوح- يشكل راديكالية على الفلسفة التاريخية التي أطرت التنمية وعملية تحديث الدولة والمجتمع، ومن ثم صنعت العلاقة بين السلطة والمجتمع...إلخ.

وقد كانت هذه الفلسفة قائمة على التركيز على المكون الديموغرافي الوطني قبل البناء المادي للتنمية والتحديث، ربنا لأسباب تاريخية وسياسية، حيث كان هذا المكون يشكل أكبر التحديات وأعظمها للحقبة السياسية السابقة، فهل لم يعد كذلك في نظيرتها المعاصرة؟ ولا نتحدث هنا عن المثالية في تجسيد هذه الفلسفة خلال الحقبة السياسية السابقة، وإنما كانت في تطبيقاتها ناجحة في الاحتواء السياسي لهذا التحدي، صحيح لم يكن وراءه مفهوم بنائي مستدام، وإنما وراءه احتواء لمفاصل اجتماعية مؤثرة على العامة؛ لذلك نتفق مع تصحيح هذا المسار، لكن ليس بالراديكالية الراهنة.

فليس من السهولة تغيير الفلسفة وتبني أدوات للتغيير والتحول بصورة راديكالية، صحيح ستنجح، لكنها ستصنع مجتمعين بمعطيات مختلفة تمامًا، من هنا ندعو لدراسة هذه المسارات والتحولات قبل أن تترسخ تداعياتها في البُنى الأساسية، والاهتمام بالحاضر بقدر الاهتمام بالمستقبل وفق توازنات موضوعية، فبناء المستقبل يتوقف على ماهيات إعادة بناء الحاضر وشموليته، وينبغي أن يكون أي تفكير في المستقبل محكوما بعدم ترك خلفه ما قد يضرب أو يعرقل مسيره المستقبلي أو يدخله -أي المستقبل- في توترات داخلية، وهنا يكون نجاح النخب الحكومية والعمومية من عدمه، ومنه يشكل معيار استمرارها أو تبديلها.