إدارة التحفيز

حاتم الطائي

◄ مسيرة النهضة المُتجددة تمضي قدمًا نحو التطوير الإداري القائم على التحفيز

◄ منظومة "إجادة" قادرة على تحقيق التطوير الإداري.. لكن التحديات لا تزال قائمة حتى الآن

◄ "البيروقراطية" تغتال الإبداع وتئد التميُّز وتنسف جهود التطوير

مُنذُ أن انطلقت مسيرة النهضة المتجددة تحت القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ووطننا العزيز يشهد مجموعة من التحوُّلات نحو الأفضل والأكثر تطورًا.. وإيمانًا من جلالته بأهمية الإصلاح الشامل والجذري، كانت البداية بإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، والتي أُنجزت على نحوٍ متكامل فيما اعتبرناه ثورةً في الإصلاح الإداري؛ سواءً على مستوى الهياكل الإدارية للوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، أو فيما يتعلق بأُسس إدارة الدولة؛ بما في ذلك الميزانية العامة، من حيث التعاطي مع التحديات الاقتصادية الحادة التي ألقتْ بظلالها على الأداء المالي للدولة، ومن ثم على جهود الحكومة في الإنفاق العام.

وفي القلب من هذا التطوير الإداري، سعتْ دولة النهضة المتجددة للارتقاء بالكوادر الوظيفية، عبر حُزم قصيرة وبعيدة المدى من البرامج والمنظومات الإدارية التي تستهدف تطوير أداء الموظف وتحفيزه على زيادة الإنتاج، غير أن ثمّة تحديات ما زلنا نواجهها نتيجة لعدم الحسم في عدد من الأمور، وغياب المسؤول القادر على اتخاذ قراراتٍ تصُبُّ في صالح الموظف وتطويره، وكذلك عدم وضوح الأهداف لدى بعض المسؤولين في الوزارات والهيئات والمؤسسات. لذا كان من الضروري الحديث عن التحفيز الإداري، وتحدياته وآفاقه، في ضوء ما تنفذه الدولة من برامج ومنظومة وطنية طموحة تستهدف الانتقال بالكادر الوظيفي العُماني إلى مراحل أكثر تقدمًا، تعكس ما يملكه من مهارات وإمكانيات لم تجد من يوظِّفها حتى الآن!!

وقبل الخوض في تفاصيل الطرح الذي نود تقديمه، يهُمُّنا في المقام الأول استعراض بعض تعريفات التحفيز، والتي تتشابه في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها، وتتفق على كيفية الاستفادة من طاقة الموظف وقدرته على العطاء والعمل والإبداع، ومن ثم تحفيزه من أجل بذل المزيد من الجهد الذي يُسهم في تطوير منظومة العمل، وشحذ همته من أجل تحقيق تطلعات وأهداف المؤسسة التي يعمل فيها. وهذا التحفيز -الذي يُطلق عليه البعض "الدافع"- ينقسم إلى فئتين: تحفيز داخلي نابع من كيان الموظف ذاته، وتحفيز خارجي تقدمه المؤسسة أو الشركة أو أي كيان ينتسب له الموظف/العامل.

وهنا يجبُ على كل مؤسسة أن تُدرك أن منظومة التحفيز لا ينبغي أن تمضي وفق نمطٍ واحدٍ وثابتٍ؛ فالموظف الذي يسعد بالحافز المالي، ليس مثل الموظف الذي يتطلع لحافز إداري من خلال ترقيةٍ أو منحه صلاحياتٍ أوسع لأداء مهام عمله. بمعنى آخر، قد نجد موظفًا يسعى بكل جهده من أجل الحصول على زيادة في راتبه، من خلال العلاوات والمكافآت والحوافز المالية والأرباح وغيرها من صور التحفيز المادي. أما الموظف الآخر، فيجتهد من أجل نيل الترقية التي يطمح لها، أو بهدف الحصول على امتيازات إدارية تُسِّهل عليه مهام عمله.

وإذا ما طبقّنا ذلك على أرض الواقع -في ضوء عملية الإصلاح الإداري في مسيرة نهضتنا المتجددة- سنجدُ أنَّ أيًّا منها لم يتحقق بالصورة الكافية؛ فمنظومة "إجادة" التي بدأت وزارة العمل تطبيقها قبل شهور -والتي تتضمَّن كذلك منظومة الحوافز والمكافآت- لم تتوسع بالدرجة الكافية في تعريف الموظف بأدوات التحفيز، ولا يزال أغلب الموظفين يشكون من عدم درايتهم بتفاصيل هذه المنظومة، وأنها قد لا تلبي تطلعاتهم وطموحاتهم، خاصة فيما يتعلق بالترقيات في الدرجة الوظيفية، التي تعني حرفيًّا زيادة في الدخل الشهري، وليس بالضرورة الحصول على ترقية إدارية من حيث المنصب أو المسؤولية. موظفون كُثُر غير مُلمِّين بماهية وطبيعة وتفاصيل هذه المنظومة؛ الأمر الذي يفرض على الوزارة التوسع في الدورات والبرامج التدريبية التي تساعد جموع الموظفين في مختلف وحدات الجهاز الإداري للدولة، على معرفة آليات عمل هذه المنظومة المتطورة، والتي تمثل التطبيق الأمثل لمفهوم التحفيز الخارجي.

أمَّا التحفيز الداخلي، والذي يرتكز في أساسه على الدوافع الشخصية للكادر الوظيفي؛ مثل: الدافعية في العمل، والحماس الذاتي، والحرص على أداء الواجب الوظيفي في أكمل صورة، والرغبة في الإبداع تلبية للدوافع الذاتية، وهذا النوع من الموظفين يتحلى بالإيجابية المُطلقة، ودائمًا ما يرسم صورة ذهنية إيجابية عن العمل وطبيعته، وعن المؤسسة التي يعمل فيها، وزملائه وأقرانه، الذين يتفاعل معهم. ولا شك أن الموظف صاحب التحفيز الداخلي، أكثر قدرةً على الانخراط في منظومة التطوير الإداري، ما لم تكن تحد من إبداعه أو تعرقل مسيرته بسبب إجراءات أو مُتطلبات بيروقراطية أوجدتها بلا داعٍ المنظومة البيروقراطية التي لا تنفك تنخر في عظم المؤسسات والشركات.

وهذا يقُودُنا إلى عائق رئيسٍ من عوائق التحفيز، وأقصد: البيروقراطية، التي لا أراها سوى مكابح ثقيلة تتسبب في إبطاء العمل الإداري، وربما تَوَقُّفه تمامًا عن التشغيل، فتضيع كل إجراءات التطوير سُدى، وتتراكم المعوقات واحدة تلو الأخرى، حتى تتسبب في ترهل الهيكل الإداري ونزوعه إلى الكسل والتسويف وإبطاء العمل بحُجة "البيروقراطية"؛ وهو ما يُفضي في نهاية المطاف إلى انتكاسة أشد وطأة عمّا كان الوضع عليه سابقًا.

لذلك نطرح التساؤل التالي: كيف يُمكننا تنمية وتطوير مواردنا البشرية وتفادي البيروقراطية القاتلة للإبداع والتميُّز والإتقان في العمل؟

هنا نعودُ إلى أصل التطوير، وجذوره الأولى، أي: التعليم.. نعم؛ فالتعليم أساس أي نهضة وتطوير، والمعرفة هي حجر الزواية في هيكل أي كيانٍ مُتقدِّم وناجح، وأي تعثُر في منظومة التطوير الإداري، لا شك أن مردَّه غياب التعليم الصحيح والأمثل؛ إذ إنَّ الطالب الذي ينشأ على تقديس قيمة العمل والعطاء والإتقان، لن يتخلى عن التمسك بهذه القيم طيلة حياته، وهذا ما نجده مثلًا في النموذج الياباني في تنمية الموارد البشرية. فتلاميذ المدارس ينشأون منذ نعومة أظافرهم على قيم سامية، تقودهم إلى العمل الجماعي المُتقن، ويكفي أن نعلم أن التعليم في اليابان يرتكز على تنمية مهارات البحث وحُب التعلُّم والتفاعلية بين المُعلم والطالب، لا على التلقين والحفظ والحشو المعلوماتي في أذهان الصغار! وعندما ينتقلون إلى مراحل أعلى من دراستهم، تكون قد تشكّلت لديهم رؤية شاملة عن الحياة وكيفية التعاطي معها.

ونحنُ في عُمان نملك جميع المقومات التي تجعلنا من الأمم المتقدمة، لكننا مع كل أسف، لا نوظِّفها على النحو الأمثل؛ بل ربما نُضيِّق عليها الخناق حتى تصبح هي والعدم سواء!

ما الحل إذن؟!

الحلول مُتعدِّدة ومتنوعة، وعلينا أن نختار منها ما يتناسب مع ثقافة وطبيعة مواردنا البشرية، لكن في الوقت نفسه نحرصنحربيسبيسبسنحرص على عدم الارتكان إلى السلبيات، بزعم أنها جزءٌ من ثقافة العمل المتجذرة في المجتمع. وأبدأُ هنا بالسلبيات، والتي تتمثل في بعض الجوانب مثل كثرة الأعذار المرتبطة بالأوضاع الاجتماعية للموظف، أو التحجُج بالضغوط المالية كسببٍ لعدم أداء العمل على الوجه الأمثل، أو الشكوى المُستمرة من كثرة المسؤوليات وتعددها. وهذا يدفع أي مؤسسة أو جهة عمل أن تضع "مدونة سلوك وظيفي"، تُطبق على الجميع دون استثناء، مع لائحة استثناءات محدودة للغاية تُطبّق عند الحاجة، وفق فقه الأولويات، مع الحرص على عدم التوسع في منح هذه الاستثناءات، وأن تكون في أضيق الظروف.

أيضًا.. يستلزمُ التطوير الإداري وضع منظومة حوافز ومكافآت مُجزية، يشعر من خلالها الموظف أنه كلما زاد إنتاجه، ارتفع دخله، وكلما بذل المزيد من العطاء، استقبل المردود المادي والوظيفي الذي يستحقه. وهُنا يتعينُ التفكير في كيفية الاستفادة من الموارد المالية؛ سواءً على مستوى الدولة (من خلال بنود الميزانية العامة وما يتحقق من فوائض مالية) أو جهة العمل (من خلال المُخصصات المالية والإيرادات التي تجنيها من رسوم وخدمات).

ومن بين السُّبُل الناجعة في التطوير الإداري، اتباع نهج الاستماع إلى آراء الموظفين؛ من خلال الاستبيانات الدورية حول عدد من الجوانب، مثل: الرضا الوظيفي، والشعور بالعدالة الوظيفية، ومدى الرغبة في مواصلة العمل داخل المؤسسة. وهذه الاستبيانات بمثابة "البلورة السحرية" التي من خلالها يستطيع المسؤول أن يتعرف على تحديات الموارد البشرية وتطلعاتهم ورؤيتهم للتغيير الإداري الذي يقود إلى النجاح، ومن ثم تتراجع معدلات التذمر والاستياء والرفض الوظيفي لدى هذه الموارد، وعلى إثرها يتخذ المسؤول القرارات الأمثل والأنجع، فيتحقق التطوُّر الوظيفي المنشود.

ومن الإجراءات المُحفِّزة على الإجادة والإبداع الوظيفي: تعزيز الروح الإيجابية في بيئة العمل؛ فالموظّف يمكث في دوامه عدد ساعات ربما يفوق عدد الساعات التي يقضيها في بيته وسط أهله، وهُنا يجب أن يتحول مقر العمل إلى بيئة نابضة بالحيوية والنشاط، مثل تخصيص موقع للاسترخاء وتناول بعض الوجبات الخفيفة، أو مُمارسة التمارين الرياضية. قد يقول البعض إنَّ هذه مثالية ورفاهية زائدة عن الحد، لكن في حقيقة الأمر أنَّ هذه الإجراءات يسهل تطبيقها إذا ما توافرت النية والإرادة في التطوير الحقيقي، لا الشكلي الظاهري!

كما يجب أن يُدرك الموظف منذ أول يوم من التعيين في وظيفته، طبيعة مساره المهني والوظيفي؛ فالسؤال التقليدي الذي يتكرر في الكثير من مقابلات العمل: ما أهدافك للسنوات الخمس المقبلة؟ وعليه يجب أن يعلم الموظف في المقابل أهداف مؤسسته منه في السنوات الخمس التالية لتعيينه، وأن تضع المؤسسات خططًا ومسارات مهنية للموظف يستطيع من خلالها استشراف المستقبل الذي ينتظره، ومن ثم العمل بجدٍ وإتقان من أجل بلوغه على النحو الذي يتمناه، لا أن يظل الموظف يمارس مهام عمله دون هدف متوسط أو بعيد المدى! وهنا أسوقُ مثالًا لسلسلة مراكز للبيع بالتجزئة تعمل في عُمان ودول الخليج والدول العربية، قد يبدأ فيها الموظف عاملًا بسيطًا يتولى ترتيب أرفف المركز التجاري، ثم بعد خمس أو ست سنوات يترقى إلى مُشرف، ثم رئيس دائرة، وبعدها مدير قطاع، حتى إنِّه قد يصل ليتولى منصب المدير العام! والمعيار هنا لا يقوم مُطلقًا على الشهادات الأكاديمية التي حصل عليها، ولا على شهادات التقدير التي نالها، ولا حتى على الدورات التدريبية التي انخرط فيها؛ بل المعيار الأساسي هو الكفاءة والإتقان والعطاء، وهو ثالوث الترقي الوظيفي الذي ينبغي أن نسير عليه. فمن المفارقات العجيبة أننا قد نجد أعدادًا كبيرة من الموظفين حاصلين على درجات أكاديمية تتجاوز البكالوريوس، لكنهم غير مُنتجين!

ويبقى القول.. إنَّ التحفيز الإداري الذي نرجوه، يستهدف أولًا وأخيرًا تشجيع الكادر البشري على تقديم كل ما لديه من أجل مصلحة العمل، وتطويره، وزيادة الإنتاجية، والارتقاء بمستويات الإتقان، وذلك من خلال عدة طرق وآليات وأدوات، تضمن العدالة -قدر المُستطاع- بين الجميع، وتقف على مسافة واحدة من الجميع، وتُلبي تطلعاتهم وتحقق أهدافهم؛ بما لا يخل بمنظومة العمل، ويكفل تحقيق قيم التميُّز والنمو والعطاء.