كيف نفهم ما يجري في روسيا؟

 

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

تابع العالم كله خلال الفترة الماضية ما جرى على جبهة القتال الأكثر سخونة منذ بدء العملية الروسية مطلع السنة الماضية في أوكرانيا؛ حيث انسحبت مرتزقة فاغنر من مدينة روستوف باتجاه العاصمة الروسية موسكو لتشكل هذه الخطوة التحول غير المتوقع في مجرى العملية العسكرية الجارية، وأفسحت المجال للتحليلات السياسية والعسكرية وتضاربها وتكييفها بحسب الغايات وربما الأمنيات.

أين الخطأ والصواب في تلك التحليلات والتسريبات؟ وعلى ماذا استندت تلك التي اعتُبِرت خدعة بوتينية؟ وللوقوف على كُنه الحقيقة، علينا استرجاع الأحداث؛ حيث ارتفع حينها صوت زعيم فاغنر يفغيني بروجين مُطالبا تارة بتعزيزات إضافية وتارة أخرى بتوجيه اللوم للقيادة العسكرية الروسية واتهامها بالقصور والتقاعس وغيرها. واستنادا لما يجري على الأرض والفاعلية العسكرية الروسية، تحظى هذه الدعوات والتهم بقدر من المصداقية، ولامست مشاعر قِطَاع عريض من الشعب الروسي، الذين لم يرضه إلى الآن الأداء العسكري الروسي؛ الأمر الذي أوجَد له قاعدة شعبية بدأت في الاتساع وتمدَّدت لتشمل معظم حلفاء روسيا على الصعيد العالمي؛ بحيث يضع خطوته في سياق ما ذهب إليه البعض.

ورغم ذلك، لن ننجرف إلى وصف ما جرى باعتباره مسرحية بوتينية، أو إلى تلك التي تعتبرها من الخدع البصرية التي يُجِيدها محترفو السرك الروسي؛ فالصراع ساخن وإلى حد كبير يتوقف على نتائجه مصير العالم ومستقبله، ولا يحتمل هذا النوع من المزاح والتهريج. وحتى ننفي هذه الخزعبلات، سنكتفي بطرح سؤال وحيد: لماذا لم تستجِب القيادة الروسية لدعوات بروجين المتكررة وتزويده بالأسلحة التي يحتاجها وهو على خط النار؟ إذا تمت الإجابة العلمية والموضوعية، حتماً سنقترب من فهم ما جرى بشكل دقيق. وأن النقطة المركزية تتمثل في النظرة الروسية التي تنطلق من طبيعة فاغنر باعتبارها قوة مرتزقة بصرف النظر عن موقعها في الجهة التي تراهن شعوب العالم على انتصارها. وهي شبيهة بتلك القوات المأجورة التي ابتكرتها الولايات المتحدة الأمريكية في حروبها خلال العقود المنصرمة تحت عناوين شتى.

هذا النوع من الجيوش لا يحمل عقيدة وطنية، وفي حالات محددة يمكن أن ينقلب إلى النقيض بسرعة البرق، ويمكن رصد أهم تحولاته في حالتين؛ الأولى: عندما تتعرض لانتكاسات ميدانية وتنسد أمامها إمكانية الانتصار. والحالة الثانية: عندما تكبُر قوتها وتتمرَّس في فنون القتال وأساليبه حيث تنمو لها مصالح ومطامع مستقلة لم تكن متوفرة من قبل. وهذا ما يفسر التردُّد الروسي في تزويده بالأسلحة النوعية رغم مناشدته المتكررة وذلك تحسُّبا لهكذا خطوة متوقعة. أما فيما يتعلق بالاستجابة السريعة لوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لكاشينكو، وطبيعة العقود التي حصلت عليها بعد هذه العملية في تجنيد مقاتلين من روسيا وعدة بلدان أخرى، وإسقاط الملاحقات القضائية، والتي أضافت مبررات معقولة لوجهة النظر التي تعتبر ما جرى مجرد تكتيك روسي متفق عليه، فهذا يعود لسببين؛ الأول: الحكمة الفائقة التي تعامل بها الرئيس فلاديمير بوتين، والسبب الثاني: الأفق العسكري المحدود لقوات فاغنر في حالة الذهاب إلى خيار المواجهة العسكرية المضادة.. وحتى نصل لأسباب نفي الخدعة نستحضر تصريح الرئيس فلاديمير بوتين حين اعتبرها طعنة في الظهر. ثم في ظل الاختراقات الأمنية المتبادلة لطرفي الصراع الرئيسيين: الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة، وروسيا من جهة أخرى، لم يعد هناك أسرار كبرى يُمكن أن تخفى حتى يتم التحايل عليها باللجوء لهكذا مسرحيات هزلية، والتي وإن صدقت فتُحدِث إرباكا في صفوف المقاتلين وتضعف الجبهة الداخلية العريضة؛ وأضرارها أكبر من منافعها، وهي على كل حال مستبعدة.

وبقدر ما يُفهم بأنَّ الموضوع يدخل في إطار الخدع السياسي المشروع، بقدر ما يؤكد هذا أنَّ قطاعا واسعا من قياده فانغر لا يزال على ارتباط وثيق بالقيادة الروسية، وقد سايرت تلك العملية إلى منتهاها، وهو ما يفسر ذلك البرود الذي تعاطت به القيادة الروسية مع هذه الخطوة، وفي شقه الآخر هو إجراء اضطراري لجأت له روسيا في مواجهة المعسكر الغربي الرهيب في ظل حياد الحلفاء والاكتفاء بالدعم السياسي والمعنوي، وتحول بعضهم إلى مراقبين سياسيين وعسكريين، ومع تطور الأحداث ستتضح الأمور بشكل تام.

تعزو معظم التحليلات الغربية مَغزى هذه الخطوة إلى فتح جبهة بيلاروسيا، وهو استنتاج مستنتج وفي كل الأحوال فإنَّ الاتجاه إلى فتح جبهة بيلاروسيا القريبة من العاصمة الأوكرانية كييف، كان محتملًا قبل وبعد هذه الخطوة، وهي تأتي ضمن خيارات روسيا الإستراتيجية. أما كيفية الاستفادة من هذه الخطوة في إجراء عملية تطهيرية في صفوف القيادة العسكرية الروسية كما يُشاع، فلا شك أنَّ هذه العملية أكثر من ضرورة إذا أخذ أداؤها الميداني معيارا.. ومن الطبيعي أن توفر هذه الخطوة حججًا أكبر ستكون أسهل بعد هذه العملية.. وربما هي الفائدة الوحيدة من هذه الخطوة.