ماجد المرهون
تتعددُ وسائل التواصل بين البشر بتنوع ثقافاتهم واختلاف ألسنتهم ومواقعهم، كدلالات الحركة والإشارة ورموز الصوت والضوء، لكنهم ومع كل التباينات يتفقون على ضرورة تقريب الفوارق فيما بينهم حتى مع وجود حالات نزاعٍ أو خصومة وذلك بغرض التفاهم ولو في أقل درجاته لضمان بقاء تبادل المنافع فعالًا، إلا أن الكلام يعتبر الأكثر تأثيرًا في تبادل المعلومات واللغةُ هي عموده الفقري، ولذلك نجد مترجمًا أحيانًا قد توسط مقعدة رؤساء دولٍ ليس بينهم لغة تفاهم مشتركة وإن كانت الرمزيات في التعابير والدلالات المحيطة تؤشر تأكيدًا على الحفاوة والأهمية، ولكن لا يكفي ذلك كله بدون وجود تواصلٍ لغوي منطوق.
لا تُستخدم الجهات الإضافية كاليمين واليسار والأمام والخلف في إحدى البلدات البدائية التي يقطنها بقيةٌ من سكان أستراليا الأصليين لأنَّ لغتهم وببساطة لا تحوي تلك المفردات، ولكنهم يتعاطون بامتياز مع الجهات المطلقة كالشمال والجنوب والشرق والغرب، ولذلك يستطيع الأطفال الصغار تحديد مواقعهم بدقةٍ بالغة تصل إلى الاتجاهات الفرعية كشمال شرق وجنوب غرب وهكذا، وإن وضِعوا في مكان مجهول أو غريب عليهم أو حتى غرفةٍ بلا معالم؛ الأمر الذي قد يعضل بالخبراء والعلماء بدون استخدام أجهزة خاصة، والملاحظ هنا أن حس تحديد الاتجاه في أدمغة أولئك السكان البدائيين ينمو ويتعاظم مع الوقت بفضل التدريب اللغوي الذي أكسبهم تلك المهارة وقد يفقدونها لو أنهم تحدثوا بالإنجليزية مثلًا أو حتى العربية، وعليه فإن اللغة تُكسِب الإنسان مهاراتٍ معرفية كما أنها قد تكون سببًا في فقدها؛ فاللغة الفنلندية مثلًا لاتفرق بين الضمائر فيتأخر بذلك الطفل عندهم بمقدار عامٍ تقريبًا عن فهم جنسه المذكر أو المؤنث بالمقارنة مع متحدثي اللغات السامية، وتميل اليابانية والإسبانية للأفعال اللازمة أكثر من المتعدية حيث لا يستجيب إدراكهم ببساطة للأفعال العرضية غير المُتعمدة، والصينية لا تميز بين العم والخال وكلامها يُطلق عليه عم وكذلك الإنجليزية.
ولننتقل إلى عاصمة الضباب البريطانية كما يحلو للبعض تسميتها وقد لا يعلمون أن شيوع هذا الاسم كان بسبب حرق السكان للأخشاب قبل الثورة الصناعية؛ ولنفترض على سبيل المثال بعد انتصار الأسطول الإنجليزي على نظيريه الفرنسي والإسباني عام 1805م وما صاحبه من خُطبٍ رنانةٍ في أحد ميادين لندن وبلغتهم الإنجليزية القديمة؛ فهل سيقبل الإنجليز إطلاق مسمى "طرف الغار" بلغته العربية الصرفةِ على ذلك الميدان نسبةً إلى موقع المعركة في جنوب غرب إسبانيا؟! وبالطبع لا فهم شديدي التمسك بلغتهم ولكن ما كان لهم إلا تسميته "ترافلجار سكوير" وهو لم يبتعد كثيرًا عن أصله العربي وتبقى كلمة سكوير دالة على المربع كأحد أسس التخطيط العمراني لمُدنهم.
وهل ستَلقى خطابات ونستون تشرشل عبر الإذاعة آذانًا صاغية وهي تخترق ضباب التلوث إلى الشارع البريطاني إذا ما أقحم بعض الكلمات العربية كنوعٍ من الإبهار والتحفيز وحشد التكاتف الشعبي بعد فك رموز تشفير آلة اللغز للقوات النازية في الطرف الآخر حيث يلقي هتلر خُطبه العُصم بلغته الألمانية المعقدة شديدة الدقة دون إقتباسٍ أو إستعارة مسمياتٍ من لغاتٍ أخر؟! وإن فعلا فلن يفهمها أحد وإن فهم القلة فلن يحقق الزعيمان أهدافهما المنشودة، لكنهم كانوا يعتدون ويفخرون بلغاتهم وهو من باب القوة لا الضعف وحق لهم ذلك؛ فما هو مُبررنا الذي يجبرنا على إقتباس أسماء غربية تُوصم بها مواقع الترفية والمنتزهات لدينا، أو ماهو المنطق من إستعارة مسميات اللغة الإنجليزية ذات الثلاثة آلاف جذر لغوي والمحصورة في مجلدات قاموس أكسفورد بينما لم يسع القرآن إناءٌ سوى اللغة العربية؟!
إن الإزدواجية اللغوية وإقحام لغاتٍ أجنبية على لغتنا العربية الأم سيكون له تأثير على بنية الذهن وآليات الإستنتاج المعرفي وحتى القوانين والمواريث ولن يقبل القاضي لدينا تقريرًا طبيًا بلغةٍ أجنبية مالم يكن مترجمًا بلغة عربية صحيحة ومُحكمة، فإن سلَّمنا كرهًا عندما غزتنا خلال فترة وجيزة أسماءٍ لشركات ومؤسساتٍ أجنبية في إطار التفاهمات والإستثمارات الدولية وبتنا بلا قدرة على منع أو تجنب ذلك، فما بال شركاتنا ومؤسساتنا ومواقعنا السياحية المحلية إذ تُضفى عليها أسماء غربية أصيلة من اللغة الإنجليزية؟! فهل عجزت عربيتنا الواسعة ذات الستةِ عشر ألف جذر لغوي عن إيجاد مسمياتٍ رنانة قادرة على الإبهار والذي يُعتقد أن الإنجليزية تفعله، أم أن الإعجاب بالغرب ولغتهم فرض نفسه على عقولنا وأصل فينا القصور الذي أمتد إلى ركاكة ثقتنا بلغتنا ومسمياتنا وحدى بمن في يده القرار الموافقة عليها والسماح بها وتمريرها حتى تصل إلى المستوى الإعلامي في نوع فاقع من التقليد الذي يعجب صاحبة ولا يعجب معظم المجتمع أم أن صناعة السياحة لا تستقيم والأسماء العربية؟!
يبدو أن بعض الجهات المهمة لدينا باتت تعتقد أن التسويق التجاري والترويج السياحي لن يسترعي الانتباه أو يحقق فاعلية الجذب إلا من خلال تطعيمات لكلماتٍ إنجليزية على مسميات بعض المناشط لتُكسبها فخامةً تليق بها وتعزز من شأنها، وهذا اعتقاد وهمي لا يعدو كونه تقليدًا لبعض الدول المعجبة بعواصم الضباب الغربية ذات المربعات والدوائر والتي استعمرتها سابقًا وزرعت فيها بعضًا من ثقافاتها الاجتماعية واللغوية؛ ورسالتي لمتخذ القرار أن يجعل اللغة العربية اعتباره الأول في المسميات وإن كانت مؤقتة أو موسمية وتجنب الخلط بين اللغات، وأن لا يمضي قلمه على مسميات بلغاتٍ أجنبية ما لم يكن مضطرًا غير باغٍ بموجب قوانين تجارية دولية.