المساحات العامة.. فنٌ ووطنٌ

هند الحمدانية

عندما نتحدث عن المدن وتطويرها يخطر على بال الأغلبية ناطحات السحاب والمباني الشاهقة وأصوات الضجيج، ولكن ماذا عن الناس الذين يقطنون المدن؟ وما دورهم في التركيبية التكوينية للمدينة؟

الناس هم المحرك الذي تتشكل على أساسه المدن، فكيف يقضون أوقاتهم؟ أين يتوجهون في أوقات فراغهم؟ وهل حقًا يتيح لهم تصميم المدينة الفرصة لكي يستمتعوا بالوقت الذي يقضونه داخل المدينة أم أنهم يبحثون عن فرصة للتنفس خارج أسوار المدن؟!صوات اا ما نتحدث عنه في هذا المقال هي المساحات العامة في المدن، المساحات المليئة بالحيوية والأنشطة والمتعة والتي تؤمن للناس الشعور بالانتماء للمكان ولمدينتهم.

يتذكر العديد منا بعد رحلة سفر إلى بلد ما الوقت الذي أمضيناه في ميدان المدينة أو في شارع معين كان يكتظ بتفاصيل يتفرد بها أو منتزه عام ارتبطت ملامحه بثقافة المدينة والناس حيث امتاز بطابع عفوي وبسيط وكأنه قصة علقت في ذاكرة كل من مر به، ولهذه التفاصيل العفوية الدقيقة يشتاق الزوار والسواح وأهل المدينة حيث تعلق أصوات الموسيقى أو ربما الضجيج ورائحة المكان ونوعية الطعام المقدم والإضاءات الليلية الغريبة وغيرها من التفاصيل التي لا يمكن لذاكرة العابرين تجاوزها.

يقول المصمم والمهندس المعماري جان جيهل: "إن المدينة الجيدة مثل حفلة جيدة، الناس يبقون أطول مما هو ضروري حقا لأنهم يستمتعون بأنفسهم"، ويقصد بمصطلح الحفلة أن المدينة تبدو على قيد الحياة بحيوتها وأنشطتها وتفاعل الناس معها، ويعود ذلك طبعا إلى كيفية تصميم الأماكن العامة في المدينة.

إذن كيف نستطيع أن نخلق مساحات عامة في مدن ومحافظات السلطنة بشكل يعطي الناس الشعور بالانتماء والأريحية ويقدم لهم فرصة الازدهار إلى أقصى إمكانياتهم الداخلية، أي نحول الساحات العامة إلى وطن يولد مع الناس الإحساس بالتجذر والتواصل مع المكان، كيف نستطيع تحويل منتزه، أو حديقة عامة، أو شاطئ بحري،أو المناطق البرية المفتوحة أو الأنفاق تحت الجسور وغيرها إلى أماكن يرغب الناس بزيارتها بشكل مستمر وقضاء أوقاتهم فيها وممارسة أنشطتهم المختلفة.

إذا أردت خلق مكان عام، فيجب ألا تستعين فقط بمصمم معماري أو تعتمد على الخبرات التخطيطية المتاحة، إنما يجب أن تستشعر إنسانيتك تجاه تلك المدينة وذلك بالاستماع إلى السكان والأهالي والمشي بين القرى والأحياء للتعرف على احتياجات الناس وتبين الموارد المتاحة ولتفهم التكوين لكل مدينة وقرية وحارة وشارع لكي تفهم طبيعة المنطقة وثقافتها.

كيف نستطيع وصف منتزه عام أو ساحة عامة أنها ناجحة مقارنة بأخرى؟ المعيار الأول من وجهة نظري هو المرونة؛ إذ يجب أن تؤسس الساحات على مبدأ المرونة بحيث تلبي احتياجات الأهالي دون تكلف وتشهد على ذلك مدينة "بايهيا" وهي بلدة صغيرة في شمال نيوزيلندا تعداد سكانها لا يتجاوز 1700 شخص، اجتهد مسؤولو مدينة بايهيا وأمضوا الكثير من الوقت في تشكيل لجان ووضع خطط لتطوير ساحة المدينة بميزانية تصل إلى 25 مليون دولار، وعندما طلبوا من مصمم المدن والمخطط الحضري الخبير ديفيد إنجوتشيت مساعدتهم في إعادة تصميم ساحة المدينة، طلب منهم ديفيد جمع كل مصادر الأموال الممكن جمعها والأدوات وقطع الأثاث والخردة التي من الممكن إعادة تدويرها واستخدامها وتمكنوا خلال أقل من أسبوع وبمبلغ 5000 دولار فقط أن يحولوا مركز المدينة من مكان كئيب إلى مكان رائع وجذاب وبث حياة جديدة في قلب مدينة بايهيا.

ومن هذه التجربة أثبت مصمم المدن ديفيد أننا نستطيع أن نحول العجز الذي لدينا إلى ثروة حقيقية تغير مجرى حياتنا حيث حول أسوأ مكان إلى منطقة جذب سياحي واطلق على تلك التجربة خطة التحول خلال 7 أيام فقط، من مرحلة التخيل إلى الإتمام ومن البداية إلى النهاية، حيث يكتفي المجتمع بالمصادر التي تتوفر عنده ومتاحة كاستخدام إطارات السيارات القديمة والبراميل وتزيينها بالأصباغ والألوان وتشجيرها، استخدام الأنابيب المختلفة وتوظيفها بصورة إبداعية، استخدام أدوات الخردة وإعادة تدويرها، والتعاون بين أفراد المدينة من فنانين ورسامين ومصممين ونجارين ونحاتين وكهربائيين وغيرهم  لخلق ساحات حية تنبض وتلبي متطلبات الأهالي.

المعيار الثاني هو تحقيق الراحة لمرتادي المكان، ويتطلب هذا الأمر أن يلبى وفق ظروف ومناخ وثقافة المدينة؛ حيث ينقسم هذا المعيار لأكثر من عنصر أولها مراعاة طبيعة المناخ في السلطنة وخصوصا في فصل الصيف والارتفاع الهائل في درجات الحرارة، مما يدفع معظم الأهالي للاعتكاف في منازلهم معظم الوقت أو اللجوء إلى السفر لمناطق أبرد أو قضاء الوقت بين جدران المولات التجارية، وهنا تكمن الحاجة الملحة لتوفير مظلات الأشجار المدمجة لتبريد المساحات العامة وتوفير مساحات خضراء واسعة، أيضا تلطيف الجو عن طريق أعمدة الضباب الصناعي وأجهزة رذاذ الماء لتلطيف الأجواء ولتبريد الهواء في الأماكن المفتوحة، وتوفير نوافير المياه الملونة والتي تنبثق من فتحات بسطح الأرض للأعلى مع إضاءات مختلفة يمكن للزوار لمس المياه والاستمتاع بالتفاعل معها كما تعطي نوع من الحياة والانتعاش للمكان، العنصر الآخر هو توافر أماكن ومقاعد مريحة للجلوس بين ظلال الأشجار ورذاذ المياه الملطف للأجواء، مما سوف يجذب زوار آخرين لمشاركة المكان والاستفادة من إمكانياته.

وهذا ما سوف يحقق العنصر الثالث من عناصر الراحة وهو توافر الشعور بالأمان، فكلما زاد عدد زوار المساحات المفتوحة كلما شعر الناس بالألفة والمؤانسة وزيادة القدرة الاجتماعية في التفاعل مع الآخرين والتعرف على أناس جدد واندماج الفئات العمرية المختلفة في ممارسة الهوايات واللعب والأنشطة، وتستطيع أن تقيس مستوى الراحة والأمان في الأماكن العامة بمستوى عدد النساء الذي يرتاد المكان، فكلما كان عدد النساء أكثر من الرجال، دلَّ ذلك على أن هذا المكان آمن ومريح، ومثال ذلك في حديقة اليوبيل الفضي بولاية صحار عندما تم إزالة جدران الحديقة وجعلها مفتوحة من جميع الاتجاهات عندها فقط تضاعفت نسبة الزوار للحديقة حيث أصبحت أكثر ألفة وأماناً لمرتاديها. ويتمثل العنصر الرابع في توفر الأطعمة اللذيذة والمشروبات المتنوعة؛ سواءً عن طريق المطاعم أو عربات الطعام أو الأسر المنتجة أو الباعة المتجولين.

معيار آخر هو فن خلق تجارب تحويلية في الأماكن العامة، وذلك بإشراك الأنشطة الفنية المختلفة مثل الرسم أو سرد القصص أو النحت أو عزف الموسيقى أو إلقاء الشعر أو التمثيل وغيرها، حيث تساعد الفنون التحويلية التي يتشاركها مجموعة من الأفراد في الساحات المفتوحة في بناء صورة معرفية جديدة وخلق تجربة إبداعية مصحوبة بمشاعر غير مألوفة مما يغير من مستوى الوعي والإدراك للفرد وللمجموعة التي تتشارك معه نفس التجربة أو حتى تدعمه نفسيا من خلال المشاهدة، وهذا ما أستطيع أن أطلق عليه الاستخدام الإبداعي للأماكن العامة وإخراج الفن إلى الشارع وإلى المنتزهات بدون حدود واطلاق شرارة التواصل بين كل طبقات المجتمع في الساحات العامة وخلق مسارات جديدة كمنتدى مفتوح للتعبير وللتفاعل البشري، الإبداع الذي ممكن أن يشاهده زائر أو مجموعة من الناس في عرض فني أو موسيقي حي أثناء تجولهم لذلك المكان المفتوح سوف يبقى كتجربة مجتمعية مشتركة عاشوها معا ثم تفرقوا بعدها ليحظى كل واحد فيهم بذكراه الفريدة لتجربة مال زال ناقوسها يدق في الذاكرة.

المعيار الأخير هو تبني كل الفرص التي من شأنها أن تخلق حركة في المساحات المفتوحة، الحركة هي ترياق المساحات المفتوحة، كلما استطعنا أن نوفر مساحات للدراجات الهوائية، أو مساحات للتزلج أو المشي أو الركض أو ممارسة الألعاب المتنوعة، كلما استطعنا أن نجذر روابط الناس بالأماكن العامة وربط المشاعر الإيجابية الناتجة من الحركة بتفاصيل الساحات العامة المفتوحة.

حقيقة أننا نتوق لغرس ثقافة الفضاءات الخضراء الممتدة والمفتوحة بين القرى وداخل المدن، وأن تعزز بما يتناسب مع ظروف الطقس والمناخ وبصورة تسهل علينا الوصول لها دون الحاجة إلى قيادة السيارة لمسافات بعيدة، نسعى إلى أن نحيي احتفالاتنا الشعبية ومناسباتنا العامة والوطنية ومظاهر الفرح في الأماكن العامة وليس فوق مقاعد السيارات في الشوارع.

إنني أؤمن أن لدينا بالفعل كل ما نحتاجه لنجلب تجربة سحرية مميزة لأي مكان عام، فقط علينا أن نبصر الفرص في كل زاوية وكل قرية وكل زقاق، وكل مكان مفتوح وشاطئ بحري ممتد يولد أفكار جديدة لنا ويمثل مشروع قابل للتنفيذ والكثير من الإمكانيات غير المحدودة مثل إقامة ورش عمل ومساحات للأداء الفني والرياضي والمسرحي ومناطق عرض مفتوحة تستقطب الناس للدعم والتفاعل والتشجيع؛ لأن الناس في نهاية المطاف سوف يجتمعون في تلك الأماكن التي تمنحهم تجربة فريدة وآمنة وتضيف ضوءًا من الأمل والفن لذكرياتهم وتخرجهم من روتين الأيام ليتوقفوا قليلًا للاستمتاع بتجربة قد تخلُد طويلًا في ذاكرتهم.

تعليق عبر الفيس بوك