بودكاست.. وأوراق التاريخ!

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

"الماضي قوت الأموات، الحاضر يصنعه الأحياء، المستقبل يرسمه العظماء" محمد حامد.

***********

تصور أنك دخلت أحد متاجر بيع الكتب، أو ولجت مكتبة عامة، أو زرت مركزًا للوثائق والمخطوطات، سيكون فكرك أغلب الظن في كيفية الحصول على الكتاب أو المصدر أو المرجع- سمه ما شئت- الذي تحتاجه أو ترغب في قراءته، وبما أننا نعايش ثورة تكنولوجيا الاتصالات ممكن جدا ولم لا أن أجدك توقفت وجلست أمام أحد أجهزة الكمبيوتر لتبحث عن الكتاب أو المصدر أو المرجع- سمه ماشئت أيضا- لتقرأه عبر صيغة "PDF" فتتوقع وجوده على جهاز الكمبيوتر.. هكذا تكون الممارسات المعروفة للقراء والمهتمين، وهذا ماتعودناه، بالطبع غالبًا وليس تعميمًا.

في السابق من العصور القديمة كانت المخطوطات الحجرية أو على جذوع الشجر، أو الألواح المختلفة صناعتها، وأزمان الخط الهيروغليفي، والكتابة المسمارية، ثم كانت ثورة اكتشاف ورق الكتان والريشة الكتابة عليه، وكانت الكتابات في تلك الفترات الزمنية البعيدة في التاريخ هذا ديدنها، وهذه ترابطاتها، وتلك عمومياتها.

نترك ما سبق ونتحدث عن أمر جديد، ما زال في الأكياس، ما زالت الناس تتعرف عليه وتتفكر به، هل سبق أن علمت أو سمعت بأحد برامج "البودكاست"؟

بحسب ما قرأت فقد جاءت كلمة "بودكاست" اشتقاقًا من كلمتيْ الإذاعة (Broadcast) وآي بود (iPod) لتعبّر عن البرامج الإذاعيّة حسب الطلب، وبإمكان هذا المحتوى أن يقدم أية برامج أو اجتهادات لإظهار أي من العلوم أو الأمور المراد استخدامها بهذه المنصات.

منذ بداية ثورة البودكاست (هكذا أسميتها نظرًا لانتشارها الملحوظ) كان التركيز على لقاءات طويلة مع مؤثرين بشتى الأمور؛ خاصة السياسية والاجتماعية والثقافية، وكنت أتابع بعضها بشغف شديد نظرًا لجودة المحتوى، وأمانة الطرح وفائدته، وحتى بعض الجهات الحكومية وجدت ضالتها في مثل هذه المنصات واستغلالها بما يعبر عن نشاطها أو مهماتها الرسمية. ففي سلطنة عمان تقدم هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية من ضمن مجهوداتها القيمة ما أسمته "بودكاست وثيقة"، وهو- رغم بعض الملاحظات عليه- يقدم إنتاجًا متعوبًا عليه وبه قيمة حقيقية. لا أعلم من أين أتت فكرته لدى الهيئة، إنما الأكيد أنها فكرة إبداعية متفردة، لكنها كما أسلفت تحتاج جهدًا أكثر، رغم الإنتاج المميز الذي تم تقديمه.

ما بين "بودكاست وثيقة" التاريخي، وهو مدعوم من جهة رسمية، وبين أصناف أخرى من البودكاست، يمكن أن تقدم إنتاجًا تاريخيًا عليه القيمة ويستحق المتابعة، لكن ثمة تساؤلات مهمة للغاية: هل سيكون البودكاست أحد المراجع أو المصادر التاريخية المعتمدة علميًا في المستقبل؟ وإذا كان بلا ببلوغرافيا (مراجع) أو هوامش، هل سيكون بذات المصداقية المتمتعة بها الكتب الورقية؟

تصور لو أن باحثًا في التاريخ بمرحلة الدكتوراه، يضع في خانة الهوامش أو صفحة المصادر والمراجع أنه أقتبس المعلومة هذه أم تلك من ذلك البودكاست، هل سيتم قبول جهده والتصديق على المعلومة المستقاة من بودكاست؟

الأسئلة كثيرة، والزمان ينطلق بقوة نحو التغييرات ربما الجذرية، اليوم بودكاست، وغدا الذكاء الاصطناعي، وكثير جدًا أمامنا، ولا نعلم ما الذي سيخفيه الزمن، هل سنعتمد البودكاست أم أن أوراق التاريخ ستستكمل صمودها؟

لكن لا شك نتذكر قوله تعالى: "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء: 85).