علي بن مسعود المعشني
كثيرةٌ هي المصطلحات التي عَرِفَتْ التغيير في الفهم والتطبيق على أرض الواقع اليوم، ولم تعد وفق المفاهيم القديمة صالحة اليوم؛ بل أصبحت من تراث السياسة والثقافة العامة المهجور، ومفردات جوفاء لواقع مُغايِر تمامًا.
فالسيادة لم تعد تقرير مصير كيان سياسي يرفع علمه ويسُك عملته الوطنية وله نشيده الوطني وحدوده السياسية المعترف بها دوليًا، والأمن القومي لم يعد حق الدفاع عن كيان سياسي واضح المعالم والتعريف وفق القانون الدولي وقواعد السياسة، والاستعمار لم يعد جحافل الجيوش الأجنبية على أرض هذا الكيان السياسي أو ذاك. لقد تبدلت جميع تلك التعريفات والمفاهيم اليوم في ظل زحف العولمة الغربية واحتلالاتها وفرض هيمنتها على العالم، وفي ظل الزحف التقني المُنظَّم على العالم والذي جعل العالم بأسره تحت رحمة فيروسات إلكترونية في غرف عمليات سوداء مجهولة أو معلومة، جعلت فريستها وضحيتها الشعوب والبلدان المنبهرة بالغرب والمستوردة لكل منتجاته وفتاته وغير المحصنة تقنيًا وبالنتيجة أصبحت تحت رحمة الغرب ومهددة بالزوال في أية لحظة.
الأمن القومي لم يعد تلك الجغرافية المعلومة والمحددة وفق تعريف وتقسيم القانون الدولي للكيانات السياسية؛ بل أصبح أشمل وأوسع من ذلك بكثير؛ حيث شمل كل جغرافية بها مصالح لهذا البلد أو ذاك في أرجاء المعمورة.
كانت عبارة تصفية الاستعمار- وما زالت- هي الشعار العالمي لصوت المعركة مع المُستعمرين بجحافل جيوشهم على الأرض، وبعد رحيل تلك الجحافل تبين لتلك الشعوب ومناضليها أن صكوك الاستقلال لم تكن سوى قيود احتلالية ناعمة وجديدة لهم ولأوطانهم أشد فتكًا من جحافل الجيوش، فقد خرج المستعمر من الباب وعاد من النوافذ أشد فتكًا وتأثيرًا من ذي قبل، عبر تكريس تبعيته، وربط الثروات والمدخرات بعملاته ومصارفه المركزية، واشتراط الأولوية لشركاته في التنقيب عن الثروات في هذا البلد أو ذاك، ومنح تسهيلات عسكرية له دائمة أو حسب الحاجة، والتواصل الثقافي والعلمي بلغة المستعمر لتمكين الهوية والعاطفة اللغوية؛ بل ووصل به الأمر الى حق استغلال عقول وقوة العمل؛ بما يضمن حراك اقتصاداته ومؤسساته الحيوية. وما يسمى بـ"العالم الثالث" اليوم يتحدث عن التحرير الناقص والاستقلال المنقوص؛ حيث شهدنا بدء هذا الحراك من أفريقيا ومن قبل مستعمرات فرنسا بالتحديد، كذلك في استفاقة وإن كانت متأخرة في حالة من حالات الصحوة لـ"تصفير" الاستعمار.
الأزمة الأوكرانية أظهرت بجلاء تكالب الغرب المسعور على روسيا ومن خلالها رسالة جلية لكل العالم، بأن من لم يسعى جاهدًا وجادًا لتصفير الاستعمار فسيبقى تحت رحمة الغرب وتأثيره إلى يوم يبعثون.
فقد تبين للعالم حجم الأدوات الاستعمارية التي يمتلكها الغرب لتوظيفها ساعة الصفر ضد خصومه والخارجين عن طوعه، بدءًا من توظيف السلاح ضده والترهيب العنفي المباشر وتجييش قوى الإرهاب والمرتزقة والظلاميين من العالم، مرورًا بالمُنظمات التي تسمّى دولية، والمنظمات التي تسمّى أهلية، والحصار الاقتصادي والمتمثل في التبادل التجاري مع العالم، والحصار المالي عبر استعمار الدولار والمصارف الأمريكية والغربية، وصولًا إلى الحرمان والحصار التقني من قبل المنظومات التقنية العالمية والتي يمتلكها الغرب ويحتفظ لنفسه بحق بالتأثير عليها.
العالم اليوم لا يتشكل شرقًا من فراغ؛ بل من معاناة طويلة مع السطو الغربي والذي كان محل جدل فيما مضى من الزمن وتجلّى وكشّر عن أنيابه في تفاصيل ومراحل الأزمة الأوكرانية، لهذا سينتقل العالم تدريجيًا من مرحلة تصفية الاستعمار إلى مرحلة تصفير الاستعمار ليهنأ باستقلاله الحقيقي وسيادته الحقيقية وثرواته، وليتعايش وفق منظومة الأخلاق الفطرية وقواعد السوية الإنسانية.
كان المناضل والمفكر الجزائري مولود قاسم آيت بلقاسم يستخدم مفردة "الاستدمار" بدلًا عن الاستعمار، ويُدلل على قناعته بهذا المصطلح بالقول: "إن الاستعمار هو إعمار الأرض والإنسان، بينما الاحتلالات الغربية لبلداننا لم تجلب سوى الدمار للإنسان والأوطان؛ حيث سلبت منه كل شيء".
قبل اللقاء: "ما لم تخطط لحياتك، فأنت حتمًا ضمن مخططات الآخرين".
وبالشكر تدوم النعم.