"صناعة الجوع وخُرافة الندرة"

 

حمد الناصري

 

قبل عامٍ تقريبًا أو يزيد، قرأتُ كتاب "صناعة الجوع خُرافة الندرة" من تأليف مور لا بيه وجوزيف كولينز، يتحدث الكتاب عن دور السياسة الأمريكية والغرب على العموم، في إنتاج مجاعة مُصطنعة في الدول التي أطلقوا عليها مصطلح العالم الثالث وذلك من خلال منعها من إنتاج الغذاء الذي يكفيها، حتى ولو كان لديها وافر من الإنتاج فيتم إهدار الجزء الأكبر منه وإساءة استخدام الموارد فلا يجد مُواطنو الدول المنتجة شيئًا غير الفُتات.

وقد تطرق الكتاب لما أسماها بالخرافة، سأُبيّن للقراء وباختصار  ثلاثة أوجه منها فنقرأ، في صفحة 15 من الكتاب: "مُحتكرو الأرض من كل مجموعات النخبة المالكة التقليدية وشركات استثمار الأراضي هم الذين أثبتوا أنهم الأقل كفاءة وجدارة بالثقة، والأشد ميلًا إلى التدمير من بين مُستخدمي موارد الإنتاج". والإشارة واضحة إلى دور الشركات الكبرى في السيطرة على موارد وأراضي الدول من خلال صِناعة الغذاء ظاهرها استثمار وباطنها تدمير وتضييق.

وفي صفحة 29، طرح لنا الكاتبان الخُرافة الثانية فذكرا ما نصّه: "على أية حال فإنَّ الجهود لحل مشكلة البطالة بخلق الوظائف في مناطق مدنية مركزية، هي جهود في غير موضعها، ففي البلدان المُتخلفة تملك الزراعة والورش الصغيرة اللامركزية، الإمكانية الأكبر في امتصاص العُمال".

وكما هو ظاهر أنّ توفير وظائف لأهل الريف والعاملين في الزراعة، فكرة شيطانية الغرض منها جذب الأيدي العاملة من الريف إلى المدن والقضاء على الزراعة بشكل تدريجي حتى يخلو الريف من أهله المُنتجين.

أما الخُرافة الثالثة التي رصدها الكتاب فتتمثل في أن: "النمو السكاني عبء هائل على اقتصادات العالم الثالث حيث إنه يعني ضرورة خلق وظائف جديدة بينما ما يتراوح بين 15ـ 30% من السكان هم بلا عمل فعلا وكثير ممن يُسمون عاملين يُعانون في الحقيقة من البطالة المُقنعة.. والنتيجة هي أعداد متزايدة من الهامشيين، شبه الجائعين يعيشون خارج الاقتصاد".

وهنا تبدو المُشكلة في الإدارة؛ حيث إن إغراء النَّاس بوظائف مدنية فارغة المُحتوى وعديمة الجدوى وبراتب ثابت هي خدعة كبرى واستهلاك غير عادل للموارد البشرية وتكديسها خلف المكاتب فيما تخلو المزارع من المُزارعين.

هكذا يُفسر الكاتبان الخطة الاستعمارية التي تطمح لتحويل شُعوبنا إلى مُستهلكة فقط وتعتمد كلياً على الغرب في توفير احتياجاتها وأمنها الغذائيين فيتحكّم الغرب من خلال شركاته بمقدرات دولنا بل وحتى في سيادته على الغالب!

ونجد من صفحة 30- 29  التركيز ومُنذ زمن بعيد على تحديد الاتجاه الإنتاجي ليس وفقًا لحاجة الشعوب بل لفكرة الربح المُجردة لأصحاب الأموال؛ حيث يقول: "ففي إنجلترا القرن السادس عشر وأسكتلندا القرن التاسع عشر أرى تغييرا في استخدام الأرض مباشرة إلى ظهور بشر أكثر مما يجب فقد قررت الأرستقراطية مالكة الأرض، أن تربية الأغنام ستكون أكثر ربحًا من الزراعة. لكن الأغنام تحتاج إلى الكثير من الأرض والقليل من الرعاة. هكذا سُيّجت الأرض ومنع آلاف الفلاحين من دخولها". إلى أن قال "وبالطبع لم نجد الازدحام السكاني إلا مرتبطًا باقتصاد زراعي يقوم على رعي الأغنام".

وأشار أيضًا إلى أنه "قد كان إجمالي عدد سكان إنجلترا في القرن السادس عشر أقل مما في أية واحدة من المدن العديدة في إنجلترا اليوم".

كما أوضح الكاتب في صفحة 6 قائلًا: "إنَّ العمال المعدمين الذين يعملون في قطاع التصدير هم الأكثر عرضة للخطر على وجه الدقة بسبب التعرض الكثيف للمبيدات ـ التي تستخدم مع المنتجات المصدرةـ التي اعتبر الكثير منها من الخطورة بحيث يمنع استخدامها في بريطانيا وأمريكا".

وطبقًا لبيانات وكالة حماية البيئة فإنّ تسعة عشر من المُبيدات التي تنتجها الولايات المتحدة والتي تصدر الآن، إمّا لم تُصرح بها سلطات الولايات المتحدة مُطلقًا أو حدّدت استعمالها، أو حُظرت في الولايات الأمريكية.

وذكرا في صفحة 63: "وطبقًا لدراسة شاملة للمعايير الدولية فإن الولايات المتحدة إذا طبقت معايير اليابان التي تضبط مستويات السُمية سيكون علينا- أي الولايات المتحدة- أن نستغني عن نحو نصف مبيدات الفوسفات العضوي".

وقد اعتبرها الكتاب بأنها تجارة السُموم؛ فالجرعات الكثيفة من المُبيدات هي بحد ذاتها مخاطر تهدد الحياة وقد أثبتتها البحوث!! ناهيك عن كون أسعار المبيدات ما زالت في ارتفاع مُستمر.

ومن هنا يُدرك القاري، أنّ التهديد القائل أنّ تسميم بيئتنا ضروري لإطعام الجياع، هو ما يُوافق رأي الكاتب ويتساءل، أنّ المبيدات لا تستخدم من قبل الجياع أو من أجلهم ولا ما يُبقيهم جوعى. ولكن التهديد الحقيقي هو أنّ تكنولوجيا المُبيدات في أيدي حفنة من الشركات لن تظل تربح ما لم تُواصل جعل الزُراع والناس المُهتمين في كل مكان يعتقدون أنّ بقاءهم ذاته يعتمد على الاستخدام المُتزايد لمنتجاتنا.

وتُبين الحقائق التي ذكرها الكتاب أنه تم استغلال الغذاء كأداة سهلة الاستغلال الشعوب المجوعة ولوضْع سياسات مُدمرة لحكومات تلك الشعوب، إضافة لاستغلال الفوائض الغذائية للدول الغربية في توسيع أسواقها التجارية وتغلغل الشركات الزراعية والمساندة.

الخلاصة.. إنّ ما يُسمى بالمُساعدات أو المَعونات الأمريكية والغربية هي الطريقة الرئيسية التي تستخدمها مُخابرات تلك الدول في صناعة الجوع في دول العالم الثالث، وكما يَذكر الكتاب أنّ التأثير المُدمر للغرب على قدرة الناس على أن يُصبحوا مُعتمدين على أنفسهم غذائيًا يأتي من خلال المَعونة التي تسهل تغلغل ذلك الغرب عسكريًا واقتصاديًا في هيكلية الدول الفقيرة من خلال الشركات.

اختتمُ ما جاء في كتاب صناعة الجوع بقصة رواها "بتسي هارتمان وجيمس بويس" في تقريرهما عن تسعة أشهر قضياها في إحدى قرى بنجلاديش؛ حيث يقولا: "في إحدى المناسبات أتيحت لنا فرصة رؤية المَعونة الغذائية التي تصل إلى المُحتاجين وأثناء زيارتنا لمنطقة تضررت بالفيضانات، رأينا عضوا بمجلس الاتحاد يوزع بسكويت ذُرة من علبة مصنوعة عام  1963 ومكتوب عليها "مكتب الدفاع المدني، وزارة دفاع الولايات المتحدة". وأوضح أنّ البسكويت قد أنْتج من أجل الملاجئ الذرية الأمريكية، وتردد أنه كان في طريقه إلى كمبوديا حين سقطت بنوم بنه، عندها أعيد توجيهه إلى بنجلاديش، فتلقّى كل قروي قطعة قديمة من ذلك البسكويت وعلّق قروي عجوز أنّ السبب الوحيد لتوزيعه أنَّه لم يُبع في السوق السوداء، أو أنَّه لم يَجد أحدًا يشتريه.

ونستخلص من ذلك أنّ صِناعة الجوع وقلة المواد الغذائية أو ندرتها هو أمر مُفتعل ومُخطط له، حيث تَجبر الدول الكبرى دول العالم الثالث المغلوب على أمرها على الاعتماد الكلي على الغرب في تأمين احتياجاتها الغذائية وتبقى شعوبها جائعة ومسلوبة الإرادة إلى أنْ يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

تعليق عبر الفيس بوك