أدب الرحلة والحنين إلى عُمان في شعر حمد الطائي (1- 3)

 

 

ناصر أبوعون

  • الطائي يخرج من جوادر للعودة لوطنه عُمان
  • حظّه القليل تعثّر به بين مواطن الاغتراب وشقاء الغربة
  • السفر سعيٌ لقبول الآخر واكتشاف فلسفته الاقتصادية
  • ائتلاف السفر أورثه تمردا على هدوء الوظيفة واستكانتها

نستطيع القول إن أدب الرحلات بكل أدبياته ومنذ نشأته عربيًا كان دافعه دراسة الآخر، والتعرف على البيئات المتباينة التي ساهمت في تكوين العقل البشري، وشكلت معالم رؤاه المعرفية، وقد شكّلت العقيدة الإسلامية أهداف الرحالة العرب الذين خاضوا المعامع، وذهبوا إلى ما وراء البحار، وعبروا الصحارى والفيافي، وشقوا الأدغال غير آبهين ولا متهيبين في سبيل نشر الإسلام في شق منها، والتعرف على ثقافة الآخر إيمانا وتطبيقا للمبدأ القرآني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

إن أدب الرحلات "مجموعة من الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة، وقد يتعرض فيها لوصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق ولتسجيل دقيق للمناظر الطبيعية التي يشاهدها أو يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة أو يجمع بين كل هذا في آن واحد". (1)

الغربة والحنين

"وفي الغربة حين ينأى الرحالة عن وطنه، ويستقبل مجتمعًا آخر جديدًا، يصبح الحنين إلى الوطن آكد وآلم، وتصبح ذكراه مؤرقة للرحالة؛ إذ يذكر فيه أهله، وصديقه، بل حتى ترابه، والعجيب أن الرحالة يتذكر أحيانا الوطن رغم أن أمامه ما يمكن أن ينسيه وطنه، وأهله، ولو لوقت معلوم، فقد يقف أمام الجميل المدهش والغريب، فما يلبث أن يتذكر وطنه وأهله، حتى لأحسب شعوره هذا، وفي هذا الوقت بالذات، إنما ينطلق من إلى وطنه لرغبة دفينة في نفسه تتلخص في رغبته أن يكون معه من يحب، وهو يرى ما يحبه، ويعجبه ويدهشه"(2). وهذا ما نقرأه لدى الشاعر حمد بن عيسى الطائي في قصيدته التي أنشدها بعنوان: (حقًا بهم تزهو عُمان مفاخرة)، وهو برفقة وفد حكومي في ألمانيا يوم 08/04/1985م [(وإذا ذكرت أحبتي في مسقط // أعني بهم "بدر" البدور الزاهرة)، (وكذا ’علي‘ (3) أنه نعم الفتى // أشتاق فيه صلابة ومثابرة)، (لا غرو أن شوقي تفاعل فيهما // فالشوق أصلًا نحو "أسما" (4) الطاهرة)، (هي فذة في زهدها وصلاتها // جعلت من الدنيا طريق الآخرة)].

حمد الطائي وأبناؤه.jpg
 

رحلة الأمل  من مسقط إلى جوادر

انطلق الشاعر حمد الطائي في هذه الحياة يحمل أقداره فوق كتفيه، والزاد قليل، والمسير طويل، والرحلة قصيرة، من بعد أن انطلق سهم عمره من قوس الأجل إلى مرمى البقاء والمستقر الأبديّ؛ ولكنه في هاتيك المشاوير المزروعة بالشوك كان يحمل بين جنبيه قلبا مُعَنّى، وجسدًا صابرًا على البلاء، سارت به قدماه من مقاعد العلم في المدرسة السعيدية بـ(مسقط) في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين  إلى صفوف قوات السلطان المسلحة (1950- 1954)؛ ليقضي في أقاصي عُمان، ما بين شِعابها الشاسعة، وحقول نفطها في (فهود) و(الدقم)، يزرع الصحاري صبرًا، ويرويها عرقًا، فتورق (زهور العسل) في روحه رؤى بيضاء لمستقبل زاهر يلوح في الأفق، من هنا كان المبتدأ في دنيا من طبعها أن تقلب لصاحبها رأس المجن ما بين الفينة والأخرى.

وأبحرت بالشاعر سفينة الأمل بصحبة رفيقة الشقاء (أسماء الكندية) إلى شطآن جوادر الباكستانية؛ ليعمل مترجمًا بالقنصلية البريطانية عندما كانت تحت ظل الحكم العُمانيّ، وقطعةً من جغرافيتها، وفصلًا من سيرتها الإمبراطوية، وصفحةً من تراثها العربي المجيد؛ فاستقبله واليها (السيد هلال بن سعود بن حمد البوسعيدي) وأحسن وفادته، واستأنس بصحبته.

وفي هوجة الصراعات العالمية بين القوى الكبرى، ومع تنامي انحسار موجة المدّ البريطانيّ في حواضر الخليج العربيّ، بدأت عُمان تنفض يديها من (جوادر)، وعلى إثر خلافات- أشرنا إليها في كتابات سابقة- مع الجنرال البريطاني ماكسويل، كادت تودي بالشاعر إلى المهالك خرج الشيخ حمد الطائي منها عام 1957، وعاد إلى موطنه الأم عُمان لائذا بحضنها، من مكر الكائدين.

رفيقه الشقاء بين الدمام والبحرين

وما لبث غير قليل حتى شدّ رحاله إلى المملكة العربية السعودية، ونزل ضيفًا على علمٍ من أعلام عُمان وأشياخها الفضلاء هو الشيخ العالم الأديب المؤرخ محمد بن عبدالله السالمي ويكنى أبو بشير واشتهر بلقبه "الشيبة" في مدينة الدمام، لكن لم يهنأ له العيش فيها طوال ستة أشهر ما بين عامي (1957- 1958)، طارده فيها عسكر (الأمير بن جلوي)؛ ليغيب أثناءها تحت أطباق السجون بصحبة الشيخ سليمان بن محمد السالمي.

فلمّا أفلت من بين القضبان بعد ثبوت براءته غادرها على وجل وعجل إلى (البحرين)، والتحق بوظيفة بإحدى الصحف الصادرة بالإنجليزية فترة يسيرة، فلم يلبث قليلا حتى أقفلت أبوابها بعد أن لحقت به عائلته، فجاهد الشاعر شظف العيش، وسوء الطالع إلى أن عثر على وظيفة بشركة نفط البحرين (بابكو)، وبدأت الدنيا تضحك له، فألحق أولاده بالمدارس، وفتح باب داره لمواطنيه العُمانيين القادمين للعمل في البحرين، وأقامهم على كفالته، وسهّل لهم مؤونة العيش الكريم. إلا أنّ حظّه القليل في مواطن الاغتراب، وشقاء الغربة عاد يتعثر به فوقع في براثن الاستخبارات الإنجليزية فأودعته السجن ورهن التحقيقات. (5)

قبول الآخر واكتشاف إنسانيته

كان السفر في وجدان وفكر الشاعر حمد الطائي محاولة للبحث عن الآخر وسبر أغواره، والتعرّف على أسباب تقدمه فكريا، والاقتراب منه والبحث عن شراكة حضارية من بوابة الاستثمار معه ونقل رؤاه وفلسفته الاقتصادية والاستفادة منه في تنمية ثروته وتوسيع آفاق التعاون الاقتصادي البناء.

وإن كان بعض المستشرقين يرى في الرحلات "وثائق تجلي أقدمية الصراع الفكري والحضاري بين الأنا والآخر. والمقصود بالصراع" هنا (6) مما تعرِّفه (نازك سابايارد): "الإحساس بالمفارقات الفكرية بين الأنا والآخر، وهذا يتضمن مبدأ التنازع بين الأضداد، وحيرة المواقف بين الثابت والمتحول، وبين الموروث والأصيل، والمجتلب والمقتبس". (7)

إلا أن نظرة الرحّالة المسلمين وفي القلب منهم العرق العربي، وجدوا في الآخر ضالتهم، واكتشفوا إنسانيته المفقودة في وعيهم المعبأ برؤى استباقية، ونظرة تخييلية لا تمت للواقع بصلة، وخارجة عن حدود المعقول إن لم تكن مشحونة بترهات وخيالات يشكل إطارها العبث، والتأويل الغرائزي فنشأ عنها صراع عدميّ بين (الأنا/الشرق)، و(الآخر/ الحضارات الأخرى). وفي البيتين التاليين يبدي الشاعر حمد الطائي إعجابه بالمواطن الإلماني الذي انتفض لبناء بلده، وإعادة مجدها، ونفض تراب الهزيمة الذي لحق بها في الحرب العالمية الثانية، ووجهة نظره في الشعب الألماني مبنية على رؤية ومعايشة واقعية وليست مقتطعة من قراءات أو معرفة مسبقة.

[(ساروا إلى "برلين"(8) وهي فريسة // من بعد هتلر (9) للجيوش الظافرة)، (لكنها والفضل فيه لشعبها // عادت بثقل عالمي زاهرة). "وقد توضحت مظاهر هذا الصراع، الفكرية منها والحضارية في عصر النهضة، مما نجم عنه إحداث تحوّل كبير في العلاقة بين الشرق والغرب، فبعدما كان الشرق ينظر للغرب نظرة عدائية معتبرا الإسلام والثقافة العربية مثلا أعلى، بدأت على يد الرحالين تتغير النظرة إلى هذه العلاقة بين القطبين. (10)

المخيلة الشعرية والرواية الشفهية

ولأن الشعر لا يتيح للسرد الذهاب به بعيدًا، كونه يركز على المشاهدات التي امتصتها مخيلة الشاعر من المشاهدات العينية المباشرة وإعادة إنتاجها في صورة شعرية مؤطرة بالشعور الحي الصادق، والانفعالات الصادقة، ومن ثَمَّ  فهو لا يعطي مساحة أكبر لما قد يدخله من روايات شفاهية عن الآخر. ومن أمثلة هذه الروايات الشفاهية التي أرّخ لها الشاعر ما نقرأه له في قصيدة بعنوان: (الكفاح طريق كل رشاد) تعليقا منه على (حرب الخليج الثانية).[(الغرب قد جعل الكويت // ذريعة  لتمر منهم بكل فساد)، (عرفوا العراق قوية بعتادها // ولذا فإسرائيل رهن مصاد)، (حشدوا قواهم غاضبين لأجلها // لا للكويت برغم ما هو بادي)، (لهفي على بغداد عمَّ خراب // أجواؤها مشحونة بسواد)].

"ففي الأدب الجغرافي تداخلت المعطيات العينية وشطحات المخيلة، والخلفيات الثقافية المؤسسة لفعل النظر في عملية الإحضار مما أدى إلى وسم النصوص الرحلية بمستويات مختلفة من السرد ومرجعيات متنوعة؛ فالرحالة قد تتوفر لديه معلومات قائمة على المشاهدة العينية او الرويات الشفوية أو الأخبار المسندة، وقد تكون راجعة لمطالعاته.. إلخ، مما يفضي إلى إنتاج نصوص يتداخل فيها الواقعي بما هو متخيل". (11)

فلسفة ائتلاف السفر والتنقل

شاءت الأقدار أن يعيش الشاعر الجانب الأكبر من حياته مُتنقلًا، مُرغمًا في بواكير حياته، تحت ضغوط طلب مؤونة العيش قبيل عصر النهضة بعيد عن مراتع صباه ومسقط رأسه، فاستسلم لخطاه التي طوحت به في أقاصي الولايات العُمانية من جوادر إلى فهود والدقم، ثم إلى المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة ما بين دبي وأبوظبي. حتى إذا ما عاد إلى عُمان لم يستطع أن يركن إلى هدوء الوظيفة واستكانتها، وخرج منها وأنشأ مؤسسة تجارية خاصة، أخذته في سفرات بعيدة ما بين أمريكا وأوروبا والبلدان العربية. وهذا المعنى نعثر عليه في قصيدة له بعنوان: (أودعه وقلبي خافق) نظمها يوم الـ10 من ذي القعدة 1370 هجرية، وهو في طريقه قادما من (جوادر)، مرورًا بمسقط رأسه (بوشر)، ومترحلا منها إلى المملكة العربية السعودية بحثا عن مؤونة العيش الكريم (12) يقول فيها: [(ودعته والعين مني باكية // ظبي تربّى في القصور العاليهْ)، (يا ليت لو أيام أنسي قربه // دامت على رغم الليالي القاسيهْ)، (لكن صرف الدهر يأبى راحتي // وعلى عز بأن أنال منائيهْ)].

التاريخ الشخصي أم تاريخ الأمكنة؟

لقد أحب شاعرنا أرض الله الواسعة، وأعطاها كي تعطيه، وشغل بخباياها، ووظّف حسه الفطري في التنقل؛ ولأنه إنسان فقد "وُلِدا راحلا"، كما يقول شوق ضيف (الرحلات، ص:7)، ويتمثل "حصاد الرحلة في نهاية الأمر بعين الرحالة نفسه، وتقل سطوة المكان أمام سطوة مخيلته حتى يتضاءل تاريخ المكان في معظم الأحيان أمام تاريخه الشخصي الذي يحركه، ويقوده في وصفه لما يرى" (13). وبوصفه مُترّحلًا- راغمًا أو مختارًا- فقد وضع رؤيته الخاصة، وشعوره المطبوع بذاكرة فيما كتب: "فالرحالة لا يقدم المكان الجغرافيّ، بل يقدم المكان من خلال منظوره الخاص". (14)

وفي قصائد الشاعر التي كتبها في رحلاته، كان الوطن حاضرا في البؤرة المركزية لكل قصيدة، وإن كان جسده يعيش في الـ(هناك) بكل إغرائياته وعجائبيته ومتغيراته المتسارعة، إلى أن قلبه الوجداني وروحه المتوثبة كانت تعيش في الـ(هنا)/ بكل تجلياته. وهذا المعنى نقرأه لدى الشعر في بيتين من يومياته تحت عنوان: (همسة) أنشدهما عام 1983 في العاصمة السويسرية (جنيف).[(بين البحيرات وماء النهر // وبين واحات الجبال الخضر)، (ذكرتكم أحبتي في مسقط // لا سيما "بدر" و"أم بدر"].

ما بين المكان والشاعر

كثيرٌ من الشعراء والكتاب أخذوا سمات الأمكنة التي عاشوا فيه وطبعوا شخصيتهم بصفاتها وسمتها الفلكلوريّ، ووجهها الحضاريّ، وقد خلع كثير منهم نسبه على الأمكنة فيُقال: العقري والنزويّ والبوشريّ من هذا النحو إلى أن الشاعر حاتم الطائي ألبس شخصيته على الأمكنة، وطبع الملاحة في سمتها بما أضفاه من شخصيته على دروبها وأزقتها، وحمل بين جنبيه لهجته العُمانية القح، ونقل في حاضنة وجدانه الشخوص والجغرافيا حيث هبطت به الطائرة. وفي الأخير فإن"الذي يبقى من آثار قراءتنا لأي عمل أدبي يتمثل غالبا في أمرين مركزيين: أولهما الحيز/الفضاء، وآخرهما الشخصية التي تضطرب في هذا الحيز بكل ما يتولد عن ذلك من اللغة التي تنسج، والحدث الذي تُنجز، والحوار الذي تُدير، والزمن الذي فيه تعيش". (15)

وفي هذا المعنى نقرأ له قصيدة بعنوان: (نفسي فداؤك يا عُمان) أنشدها في العاصمة الدانماركية (كوبنهاغن) يوم 22/09/1985م. يقول فيها:[(أواه في "الدنمرك" زادت وحشتي // وإلى ندائك يا ابن سالم أطمع)، (ولكم سعدتُ وقد قرأتُ قصيدة // فيها تحث على الجهاد وتسجع)، (قد كنت للتوحيد رائد وحدة // كل القبائل حولها تتجمع)، (فتبددت حجب الظلام بسالم (16) // عن نصر دين الحق لا يتزعزع)].

التمسك بالهوية العُمانية

وإذا كان "كل سفر هو قطيعة واتصال، فحين سافر المرء من (س) من الأمكنة إلى (ص)، فهو ينقطع عن (س)، ويتصل بـ(ص)" (17)، وهذا شأن كل رحّالة يغادر بلده وينقطع عنه ليتصل بعالم آخر هو عنه غريب لأنه عالم "له خريطته الخاصة التي تختلف عن خريطة العالم المألوف" (18). إلا أنّ الشاعر حمد الطائي لم يكن يمارس تلك القطيعة؛ بل كان يمارس كل أنواع التواصل مع الداخل الذي نشأ فيه، والذي كان بمثابة الرحم، ومازال يعيش في مشيمته، ولم يقطع حبله السُّريّ بموطنه عُمان وأهله، فقد أعطى للأخر من وقته وراحته وفيوض روحه في رحلة اغترابه ما بين (جوادر والسعودية والبحرين وقطر ودبي، وأبوظبي)، وظل موصولا بأهله وأحبته وملاعب صباه ومسقط رأسه في (بوشر)، وما جاورها وما وصلها بجعفرية الطواونة في سمائل الفيحاء، ونزوى بيضة الإسلام وحارة عقرها الشماء. ومن قصائده في هذا المعنى [(ولئن بعدت عن الأحبة مسكنا // أنا بينهم بجواري وشعاري)، (أما لبوشر واشتياقي نحوها // حدِّث بما تهوى من الأخبار)، (هي جنة الدنيا ودرة تاجها // خلقت من الأشجار والأنهار)].

وإذا كان البعض من المشتغلين بالتحليل النقدي يرى بأنّ "البعيد جغرافيا، الغامض والسحري(مدهش)، وهو كلما ضرب في الأقاصي والمجاهيل، كلما تصدعت فيه وتيرة الحكايات الدقيقة للسقوط في هوة الجهل ولذلك تزداد النبرة العجائبية". (19) إلا أنّ الشاعر حمد بن عيسى الطائي لم يُشغف بالأقطار البعيدة التي نزح إليها حدّ التماهي والانسلاخ من هويته، أو القطيعة مع الوطن وتراثه؛ بل نراه يعاتب الدهر ويأمل في العودة سريعًا إلى دياره ويشارك في بناء وطنه، ويخلف وراءه كل ما يثير الدهشة في الأقطار الأخرى؛ فجذوره المقتلعة من تربة عُمان لن تنبت في أرض أخرى مهما أحاطوها بكل عناية وخصب. وفي هذا الباب أنشد قائلا: [(يا دهر رفقك بالكرام أسمتهم // ما زلت تفني جمعهم وتبدد)، (إن كان بعد العسر يعقبنا غنى // فمتى ترى يا دهر زرعك يحصد)، (يا ويح دهري لو يعود مسالمي // يوما فأطفيء لوعة تتوقد)، ( يا ليته لو عاد لمحة ناظر // فيرى العداة بأنهم لي أعبد)].

إذن "لقد كانت المشاعر والأحاسيس صادقة في شعورها غالبًا؛ إذ استطاعت أن تعطي المتلقي صورة واضحة للذات المغتربة البعيدة عن وطنها وهي تأبى إلا أن تذكره حتى وهي ترى الجمال بين يديها تارة أو تكتوي من قلق وخوف بعض الحوادث تارة أخرى" (20).

سمات الشعر الوطني والقومي

وإذا ما أوجزنا سمات الشعر الوطني والقومي في ديوان (الطائيات) للشيخ حمد بن عيسى الطائي وتفحصنا في سائر نصوصه الشعرية وجدنا مفردة الوطنية تستبين لفظا و معنى، متلفعة بصور بيانية مركّبة من عناصر عدة، وتحلق كطائر العنقاء في سماء جميع القصائد، وتتولّد منها أفكارا شتى، وتأتي مرةً متدثرة بثوب العروبة، ومرة أخرى متلبسة برداء إسلاميّ وسيرة النبي الأعظم، ومراتٍ في حواشي قصائده الإخوانية؛ ولذا نأمل؛ بل نوصي أن تأخذ سيرة الشيخ ومسيرته الشعرية طريقها إلى الدراسات الأكاديمية الفاحصة على أيدي دارسي النقد الأدبي في إحدى الجامعات العُمانية.

"وإذا كان بعض الرحالة قد استطاعوا إلى حدٍّ بعيد ان يصوروا المحسوس من مشاهد وحوادث وأشخاص فإن فنية بعضهم في تصوير ذاته كانت أجمل وأصدق ولئن تفاوتوا في تصويرهم للعالم الخارجي حسب أدواتهم، فلقد اختلفوا أيضا في تصوير دواخلهم ومشاعرهم إزاء وطنهم، الذي كان التعبير عنه قناة مهمة من قنوات الحديث عن الذات، وما يعتلج فيها من آلام وآمال" (21).

وفي الأخير يمكننا القول.. لم يكن الشاعر حمد الطائي متفرغًا للكتابة الشعريّة، ولم يُعِر مسألة التنقيح وإعادة الكتابة التي يعكف عليها كبار الشعراء، ويواصلون الليل بالنهار في سبيل الخروج بقصيدة تسمو إلى الكمال ولن تبلغه مهما طال انكفاؤهم على مسودّات نصوصهم؛ بل سجّل الرجل قصائده على الورق كما انبثقت من وحي الحالة الشعورية التي يعيشها وتعتمل بين جوانبه؛ فجاءت القصيدة بكرًا لم يمسسها قلم مُصححٍ، ولم تطالها ممحاة مراجعٍ، ولم يطأ عذريتها ناقد أو مصحِّف؛ بل احتفظ بها شاعرنا عارية من لبوس الصِّنعة، ولم يخلع عليها سرابيل تقيها من سهام النقد، ولم يضعها خلف متاريس القداسة؛ بل تركها تواجه مصيرها بعد رحيله عن عالم الأحياء. ويمكننا التأكيد على أنه لم يكن معنيّا بالتجديد في بنية القصيدة؛ لأنه كما قلنا شاعر غلبت عليه التجارة فأسرته، واستهلكت طاقته النفسية، وكان الشعر ملاذا وشجرة وارفة الظلال يأوي إليها طلبا لنسمة عابقة تهب من الجنوب فتداعب خياله، أو تستمطر سحابات عابرة في سمائه فتسّاقط بردًا وسلاما على روحه الوثابة في دروب الحياة.

*************

الإحالات والمصادر

(1) معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة، وكامل المهندس، ص: 16

(2) أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية، عبد الله بن أحمد بن حامد آل حمادي، ص: 69، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى، 1997م

(3) علي بن حمد بن عيسى الطائي أحد أبناء الشاعر.

(4) الشيخة أسماء بنت يوسف بن سعيد بن ناصر الكندية وهي زوجة الشيخ حمد بن عيسى بن صالح الطائي.

(5) مقابلة شخصية مع الشيخ نجيب الطائي نجل الشاعر حمد الطائي.

(6) العجائبية في أدب الرحلات، رسالة ماجستير، جامعة متنوري- قسنطينة.

(7) الرحالون العرب وحضارة الغرب في عصر النهضة الحديثة، نازك سابايارد، ص:16، مؤسسة نوفل، بيروت 1979م.

(8) هي الآن عاصمة جمهورية ألمانيا الاتحادية، وإحدى ولاياتها الـ16، وهي ثانية أكبر مدن الاتحاد الأوروبي بعد العاصمة البريطانية لندن.

(9) أدولف هتلر سياسي ألماني ولد في قرية صغيرة بالنمسا وبعد وفاة والديه انتقل إلى فيينا ليحقق حلمه في أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة ويصبح رساما لكنه فشل، قاتل كجندي في الحرب العالمية الأولى وأصيب فيها، وتسبب في إشعال الحرب العالمية الثانية واحتلال 11 دولة لينتهي به المطاف مُنتحرًا.

(10) المرجع نفسه، ص: 12،10

(11) الغرب المتخيل، نور الدين أفاية، ص: 204

(12) أنشدها الشاعر قبل سفره إلى السعودية، بعد عودته إلى عُمان 1958 قادما من جوادر.

(13) خطاب أدب الرحلات، د. نهلة الشقران، ص: 18، الآن موزعون وناشرون، ط1، 2015

(14) الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر، مستويات السرد، عبد الرحمن مودن، ص:271

(15) نظرية الرواية، عبد اللملك مرتاض، ص: 155

(16) هو الإمام العادل، الشيخ سالم بن راشد بن سليمان بن عامر بن عبد الله بن مسعود بن سالم بن محمد بن سعيد بن سالم الخروصي، ولد ببلدة مشايق من قرى الباطنة في سلطنة عُمان سنة 1301 هـ.

(17) الكنز والتأويل، قراءة في الحكاية العربية، سعيد الغانمي، ص: 73، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1994م.

(18) الأدب والغرابة، عبد الفتاح كيليطو، ص: 100

(19) المركزية الإسلامية، عبد الله إبراهيم، ص: 89

(20) أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية، ص: 70

(21) المرجع نفسه.