مشكلة تسطيح المصطلحات على المجتمع

د. قاسم بن محمد الصالحي

هي أيام وأناس ومواقف وأحاديث وعبارات، وجمل تترسخ في الذاكرة، تحضر في ذهن من يعيش عصرنا الحديث، يترافق مع كل ذلك دموع على عديد التغيرات والتبدل، وفي القلب منها ما يحدث في حياة مجتمعاتنا المختلفة من تبدل في الأحوال والتعايش والحوارات والتعامل.

فنحن أمام تسطيح في المصطلحات المجتمعية والمفاهيم، في مقدمتها تلك المجتمعات ذات السمة المحافظة، التي تعرف في ذاتها إن مصطلحاتها المحلية المتوارثة كانت تنطلق من مقاربات واقعها المعاش وأن جميع تلك المصطلحات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتناقض اليوم مع تلك القادمة من الخارج الذي يقدم مصلحته بأن لا يتشكل مجتمع يقود وحدته الداخلية بمصطلحاته الوطنية الثابتة.

لقد تسطحت مصطلحات الهوية، وبرز بدلًا منها الاختلاف الصارخ الذي يميز الوسائل المعتمدة من طرف كل مجتمع، فتقوض التماسك المجتمعي والأسري في عصرنا المعاش.

وسط كل ما أسلفناه يأتي استحضار ذكريات الماضي أمرا واقعيا حينما نفتح آفاقا واسعة لفهم حياتنا الحاضرة والغوص في أعماق مصطلحاتها وشعاراتها، لنخلق قالباً عاماً نسكب فيه موضوعنا، لكي يتكون لدينا إلمام بمصطلحات متعددة نخلق به مؤثرات وجدانية في عصر فتح فيه النقاش حول مصطلحات وشعارات استوردت إلى مجتمعات لم تكن تعرفها- كالديمقراطية، والدكتاتورية والحرية والفوضى الخلاقة، وحقوق الإنسان ...... إلخ.

إن النقاشات المحتدمة هذه حول الموضوع لم تخرج عن بوتقة الفكر الليبرالي في مقابل الفكر الاشتراكي، ومن هنا فإن تقريب مصطلحاتنا التي نعتقد بها إلى هذه المفاهيم الغربية يعقّد مشكلة النهضة وإلاصلاح الذي تسعى إليه مجتمعاتنا، التي تواجه انفجاراً من الثورة، والتي تفرض عليها الجري بسرعة، والعيش في عالم الفرضيات والخروج من واقعها، بحيث يصعب على هذه الشعوب وأنظمتها السياسية التكيف بطريقة مستقرة.

نجد في كتاب "عالم مسطح" الذي يميط فيه توماس فريدمان الصحفي بجريدة "نيويورك تايمز" اللثام عن عالم جديد يستشرف مشهدا متغيرا،  يعتمد على سياسة معقدة، يعيش قضايا اقتصادية شائكة، ويشي بأن التسطيح الحاصل، يجعل مجتمعاتنا لا تستطيع التكيف معه.

لا شك أن تعثر خطوة التكيف يكمن في مسيرة الفكر البعيد عن الواقع السليم، والحوار والتفاهم، بحيث انقلبت الأمور إلى أضدادها، يستغلها أصاحب الهوى والمصالح، ذلك أن المصطلحات المبهمة المسطحة تربك الذهن وتشوش الفكر، وقد أدان القرآن الكريم محاولات التسطيح والغموض هذه، قال تعالى مخاطبا بني إسرائيل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42)، وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أن لا يستعملوا كلمات فيها خلط وفيها باطل مثل كلمة "راعنا" وأن يقولوا عوضًا عنها "أنظرنا".

من الملاحظ أن كثيرًا من التفرق والتجاذب الذي وقع ويقع في مجتمعاتنا ناشئ عن سوء التعامل مع المصطلحات المبدعة المجملة المشتبهة، والابتعاد عن المصطلحات التي تساعد على السيطرة والضبط والتحديد، التي توصل إلى عملية الرشد والتمييز بين الهدى والضلال.

واستجلاب نظام كامل من المفاهيم الغربية لا شأن لها أصلًا بحياة وواقع مجتمع من مجتمعاتنا لاشك أنه سيحدث التناقض والتشوش، لأنه من الصعب إيجاد مقابل تام في ذلك للمفهوم الغربي.

من الآثار السلبية لنقل المصطلحات دون تتبع نتائجها على مجتمعاتنا ما يقع من صراع وتناحر وتخاصم داخلها، وفقدانها لهويتها،  فقد اعترى واقعها حالات من الوجود وعدمه، وسكون بعد حركة، وتحول من حال إلى حال؛ حيث إننا في عصرنا نتلقى المصطلح المستورد دون أن ننتبه إلى ما يلقيه من ظلال، والى المفاهيم الكامنة وراءه، وفيما إذا له معان عند القوم غير موجودة في ثقافتنا ولا يقبلها واقعنا، ولذلك نسارع الى تلقف- عن عمد أو عن جهل- مصطلحات ونستخدمها دون أن نحدد مضمونها، ونقلدها لأن لها سحر خاص في حياتنا العصرية رغم أن ذاك المصطلح أو المفهوم لا ينطبق على واقعنا وثقافتنا (الماركسية، الرأسمالية، الاشتراكية) لأنها ليست نهاية المطاف ولا هي الأمل والمثل الأعلى.

وقبل الاندفاع إلى الدخول في مفاهيم من دون استعدادات كافية، ومن دون رؤية للتعامل مع التحديات والمخاطر لمدلولات تلك المصطلحات وأهداف مصدريها من الخارج، والتي تأتي على شكل ضغوط متزايدة ومتعددة الأشكال والأهداف، التي تؤدي إلى انفلات المجتمعات وتضرر بنياتها، فإن قاعدة العلاج في اعتقادنا تكمن في الابتعاد عن حالة الاستتباع والانبهار بمصطلح يشير إلى ظاهرة ما، وضرورة الاجتهاد في التعرف جيدا على مدلولات ذلك المصطلح وأهدافه.

تعليق عبر الفيس بوك