"الفوز".. حكاية لم تروَ بعد

 

علي بن سالم كفيتان

بحر العرب كائن يتنفس ويسمع ويرى ويغضب، أخذ منِّا الكثير ويُعطينا الكثير، فهو ذلك الصعب الذي ركبناه، رغم عدم إجادتنا للسباحة، فغرقنا في لُجته؛ حيث ما زال صرير أشرعة الفوز يتردد في أعماق بحر شربثات وصيحات النجاة.. النجاة تعرج إلى السماء حتى كتمتها المياه ليسود صمت غريب ويعود بحر العرب إلى سكونه وزرقته الزاهية، وكأن شيئًا لم يكن، إلّا أنَّ الأجساد الشاحبة التي طفت إلى السطح عكرت كل تلك الصورة الغامضة في علاقتنا الأزلية مع بحر العرب، فكم أنت عنيد وظالم ومراوغ أيها المارد؟!

قبل الإبحار إلى المجهول، كانت الفوز (*) هي الرحلة الأخيرة المتاحة إلى عالم الأحلام الذي تصفه المكاتيب القادمة من العالي (*)، فما زال المُعلم عوض يقدم خدماته الإنسانية لقراءة المكاتيب، هنا يلاحقه رجل من البادية أكله القحط وهو مُمسك بفتاة صغيرة ماتت أمها بالجدري، يقف المعلم على الناصية في ظل شجرة النارجيل ويقرأ رسالة مُفعمة بالأمل وصلت من المهاجر إلى البحرين، يصف فيها الحياة والتغيير، وأنه وجد عملًا وسوف يُرسل 50 روبية هندية إلى تاجر الحنطة في سوق ظفار باستمرار، لتضمن لقمة العيش لأسرة شردها الجوع والمرض. هنا صاح البدوي في بنته "ابشري يا فاطمة.. ابشري يا فاطمة الخير جاي". ضحك المعلم وانصرف بينما ركض صاحبنا إلى تاجر الحنطة ليعطيه الخطاب ويقول "أوزن لي ذرة وسكر تمر حقك بيجيك من حوالة عدن كل شهر"، نظر فيه التاجر وقال له بكل برود "لما تجي الفلوس تجينا". انصرف مُحبطًا إلى جنب برزة الوالي مستظلًا بجدارها الذي لا ظل له، وهمَّ بسماع هدرة السبلة، فجلس يُتمتم غير راضٍ عن وضعه، وفي لحظة خطرت بباله فكرة السفر على ظهر الفوز التي ما زالت راسية في فرضة ظفار، فأصبح أحد ركاب رحلة الموت هو وابنته الصغيرة التي حاول أن يبقي رأسها خارج الماء حتى خارت قواه وصمت قلبه، فسقطت فاطمة كحجر صغير حتى استقرت إلى جوار أبيها في القاع المظلم.

يبدو أنَّ وفد أصحاب المال والجاه المسافرين على ظهر الفوز يتمتعون بميزات خاصة، فقد أُعدت لهم جلسة خاصة في إحدى جنبات السفينة، ملابسهم بيضاء ناصعة، وعمائمهم ملفوفة بعناية، يمتطون خناجرهم والعصي الأنيقة في أياديهم مع المسابح التي تلمع مع الماء وأشعة الشمس المتسللة لتلك الجلسة الباذخة، يجاملهم النوخذة ويطلب من الصبي الاعتناء بهم، ينادي أحدهم للنوخذة متسائلًا هل بضاعتنا دخلت الخن (*)، يؤكد له ذلك، ويحضر كشف البضاعة بأوزانها، فيُحرِّك رأسه كعلامة للرضا، بينما يحتشد بقية المسافرين بشكل عشوائي على سطح المركب، رجال ونساء وأطفال وكبار في السن، جميعهم يتوسلون بنظراتهم للفرج مما هم فيه، ومع أول هبة ضربت الفوز تخلّى التجار عن مسابحهم وخلعوا خناجرهم وتمسكوا جيدًا بالصواري، وشخصت أبصارهم إلى السماء وهي تغدق عليهم بمائها، والبحر يفور من تحت أقدامهم المنعمة. وفي هذه اللحظة لجأ كبير التُّجار إلى ذلك الراعي المفتول العضلات وهو يستجديه للمعونة، لكن العاصفة هبّت بعنف وانفلتت يد كبير التجار من يد الراعي وتناثرت حبات المسبحة بينهما؛ لينتهي المشهد بنظرات في الماء وهروب جماعي إلى القاع.

امرأتان من الريف كانتا ضمن الركاب؛ سلمى وخير، لقد طلب أخوهما المهاجر للكويت في آخر مكتوب، حضورهما، وعمل كل جهده لتنضما إليه، فقد مات الأب وهلكت الماشية، ولم يكن أمامهما إلا العبور إلى الضفة الأخرى. لم يكن لديهما أحد الأقارب في الفوز؛ فانضمتا إلى جمع النساء والأطفال، تعرف عليهما محاد؛ كونه من الريف ووعد بتقديم أي خدمة حتى الوصول للوجهة النهائية. لم تطأ رجل محاد أو المرأتين سفينة قط، إلّا أن المُضطر يركب الصعب، كما يقال إن الجهل بالبحر ولُجَجِهِ جعل منهم يتوقعون أن هذه العاصفة أمر اعتيادي، فجلست المرأتان إلى جوار محاد، يتمسكون جيدًا برأس السفينة (الدجل)، فانكسرت "الفوز" من الوسط، وغرقت المؤخرة، وظل الرجل والمرأتان معلقين في الهواء وهم يتشبثون بالنجاة، سقطت سلمى المريضة بالسل، وتبعتها خير، بينما ظل محاد مُمسكًا برأس الدجل ينظر بمرارة إلى المشهد وهو يلعن بلهجته الريفية الساعة التي جعلتهم يثقون في البحر، ويركبون "الفوز"؛ فقد غرق الجميع، وظل هو الشاهد الأخير على الحادثة. بعد أيام طفت الجثث على ساحل الشويمية وشربثات (*) وهبَّ الرجال والنساء لجمع الأجساد التي كانت تحلم بغد أفضل وإيداعها في قبور جماعية، ما زالت شاهدة على كارثة غرق السفينة "الفوز" إلى اليوم.

----------------------

* الفوز: سفينة غادرت ظفار بتاريخ 23 مايو 1959 وغرقت في بحر العرب بعد أن هبّت عليها عاصفة استوائية.

* الشويمية وشربثات: قرى ساحلية شرق محافظة ظفار.

* العالي: اسم للدلالة على دول الخليج العربي.

* الخن: مخزن داخل السفينة.