متعة التدريس في أعرق جامعات العالم

د. محمد بن عوض المشيخي **

تمثل الجامعات الرصينة ذات السمعة الأكاديمية الرفيعة في أي بلد في العالم، البوصلة التي توجِّه صُنَّاع القرار نحو القرارات الرشيدة التي تعتمد على الخلاصات والنتائج العلمية التي يتوصل إليها الأكاديميون وطلبة العلم من الشباب، وذلك للارتقاء بالمجتمع في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وللجامعات العريقة تأثير كبير على جميع أطياف الأمة؛ لم لا فهي بمثابة بيت الخبرة والعقل المُدبر لتقديم الحلول لمُختلف المشاكل المُستعصية التي تُواجه المُجتمعات في مُختلف دول العالم، وذلك من خلال الحقائق المنهجية والدراسات العلمية الجادة التي تجرى في أروقتها ومراكزها المتخصصة، وعلى وجه الخصوص في القضايا الاقتصادية والظواهر الاجتماعية. كما أن طلاب العلم من الجيل الصاعد الذين هم في مقاعد الدراسة يمتلكون طاقات جبارة وأفكارًا خلَّاقة يُمكن الاستفادة منها وتسخيرها لخدمة التنمية ورؤية "عمان 2040" في هذا البلد العزيز.

وبكلياتها التسع ومراكزها المتخصصة في العديد من المجالات العلمية والدراسات الاجتماعية والإنسانية وطلبتها الذين تجاوز عددهم أكثر من 18 ألف طالب وطالبة،  فإن جامعة السلطان قابوس صرحٌ من صروح الفكر والمعرفة في سلطنة عُمان بلا منازع، ومن وظائفها الأساسية صناعة قادة المستقبل لهذا الوطن، إضافة إلى التعليم وتخريج وتأهيل الأجيال التي سلاحها المعرفة لرفد الوطن بالكوادر المدربة والمؤهلة لخدمة قطاعات التنمية المختلفة.

أما الوظيفة الثانية لأي جامعة فتتجلى في خدمة المجتمع عن طريق تقديم المحاضرات العلمية، والتدريب المستمر لمختلف أفراد المجتمع كما هو الحال ما تقدمه الكليات ومركز التعليم المستمر في جامعة السلطان قابوس للمدارس في التعليم العام، وكذلك إقامة دورات وبرامج قصيرة لمختلف الجهات في البلاد.

ولا تكتمل مهام ووظائف الجامعات العريقة، إلّا بوجود البحث العلمي الرصين؛ المتمثل في تقديم الاستشارات البحثية؛ للوزارات والهيئات الحكومية في داخل الدولة وخارجها، وكذلك شركات القطاع الخاص؛ بهدف تقديم الحلول للمعوقات التي تواجه هذه القطاعات الخدمية، وتحسين أدائها، خاصة من خلال اطروحات  الدراسات العليا بفروعها المتعددة والمتمثلة في درجاتها العلمية بداية من دبلوم الدراسات العليا مرورًا بالماجستير وانتهاءا بدكتوراه الدولة.

لا شك أن التدريس في قاعات جامعة السلطان قابوس يفتح آفاقاً رحبة في الفكر الإنساني، وتجربة أكاديمة فريدة، لا توجد إلّا في القليل من جامعات العالم العريقة التي تأسست عبر القرون؛ لذا يعاودني الحنين إليها كل مرة كأستاذ متعاون (زائر)؛ على الرغم من مرور عدة سنوات على استقالتي الاختيارية من هذا الصرح الشامخ بمنتسبيه من الطلبة والأساتذة.

من هنا أثمن الدعوة الكريمة لي من الزملاء في قسم الإعلام في كل عام أكاديمي، لتدريس مقرريْ "الرأي العام والدعاية" و"وسائل الاتصال في الخليج العربي".

وتكمن أهمية ومتعة تجربة التدريس هذه المرة بالنسبة لي في التفرغ الكامل للمحاضرات، والإعداد الجيد للمادة العلمية؛ بعكس أيّام الدوام الإداري والاجتماعات الطويلة للجان والمجالس في الجامعة؛ إذ كُنّا نأتي للقاعات مُنهكين ومُتعبين، ولا نشعر بمتعة الأجواء الأكاديمية الجميلة للمحاضرات ذات النقاشات المتبادلة مع الطلبة. كما أن أحد هذين المقرريْن الذي يحمل عنوان "وسائل الاتصال في الخليج" يعتمد على كتابي "إلاعلام في الخليج العربي.. واقعه ومستقبله"؛ كأحد المراجع الأساسية لهذا المقرر.

وفي هذه الأيام الأخيرة من الفصل الدراسي الحالي "ربيع 2023"، غمرتني السعادة وأنا أقرأ خلاصات بحوث الطلبة في قضايا الرأي العام في سلطتنا الغالية؛ إذ تنوعت الدراسات الميدانية التي أجراها الطلبة بين القضايا المحلية والخليجية والعربية. وكما جرت العادة في كل بداية كل فصل دراسي، يتم تقسيم الطلبة إلى مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد كل فريق بحثي 3 أفراد، ويُطلب منهم اختيار قضايا تتعلق بالرأي العام العماني؛ إذ يتم تطبيق دراسات ميدانية على العينات المستهدفة التي تمثل المجتمع الأصلي المستهدف.

ومن الدراسات الجادة التي أنجزها الطلبة في هذا المقرر في هذا الفصل؛ دراسة بعنوان: "إمكانية تحول التعاون الخليجي إلى اتحاد خليجي.. دراسة ميدانية على الدارسين والباحثين في العلوم السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي". وطُبِّقَت الدراسة على 250 مُفردة من طلبة وأساتذة العلوم السياسية في الجامعات الخليجية، وقد كشفت نتائج الدراسة عن  وجود تحديات اقتصادية وموانع سياسية وعقبات أمنية تُكبِّل تحوُّل المجلس من التعاون إلى الاتحاد الخليجي المنشود من أبناء دول المجلس.   

أما البحث الثاني فكان بعنوان: "أسباب قلة الإنتاج الفكري في الوطن العربي وسلطنة عُمان"، وخلصت هذه الدرسة إلى واقع مرير ونقص شديد في الإنتاج الفكري، يُشبه التخلف والجهل بين العرب من المحيط إلى الخليج، فقد اعتمدت الدراسة على أساتذة الجامعات وطلبة العلم الذين شخصوا هذا التراجع عن اللحاق بالأمم الأخرى التي تتمايز وتفتخر بما تنشره وتقرأه من فكر وصل إلى العالمية، التي تعود في مجملها للعوامل الدينية والثقافية والسياسية في كل الأقطار العربية، وهذه الأسباب تمثل عوائق تحد من الإنتاج الفكري.

أحيانًا رجل السياسة يملك "حق الفيتو" على بعض الاعمال الفكرية او النقدية ولا يقبل ان يكتب المُفكِّر ما يشاء، وذلك لأن المجتمعات العربية مُرتبطة بالواقع والمناخ السياسي؛ فالكاتب قبل أن يشرع في عملية الكتابة، يُفكِّر في المصير الذي يمكن أن يلقاه كتابه وشخصه؛ فالفكر العربي في الأساس لا يقبل إلا الرأي الواحد، ولذلك الراهن الثقافي أو البناء المعرفي في البلدان العربية ما زال بعيدًا عمَّا وصلت إليه الدول المتقدمة من وعي ومنهجية وحرية فكر.

في الختام.. لقد حان الوقت لتفعيل البحوث العلمية التي أُنجزت وتوظيفها؛ وذلك بإلزام الوزارات والهيئات الحكومية والشركات ذات العلاقة بهذه البحوث؛ بالاستفادة من نتائجها وتنفيذها على أرض الواقع بدلًا من إحالتها إلى أرفف المكتبات!

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري