القطيعة المُكلفة

 

د. صالح الفهدي

 

قال لي مسؤولٌ سابق منذ سنوات أنَّه نُقلَ من وزارةٍ إلى أُخرى، ثم سمعَ من وزير الأُولى أنَّه كلَّف شركةً أجنبيَّةً لوضع دراسةٍ تطويريةٍ للقطاع الذي تُشرفُ عليه الوزارة، وبعدَ أن سمعَ اسم الشركةِ قال للوزير: هذه الشركة هي التي تعاملنا معها سابقًا لإجراء دراسة ما زالت رهينة الأدراج لم يُعمل بها، ولن تفعل أكثر من نسخ الأُولى وتقديمها مرَّةً أُخرى واستلام مبلغ 700 ألف ريال مقابل الدراسة الثانية!!". ولو أنَّهم استشاروا المسؤول السابق لتفادوا كل تلك الجهود والمصاريف التي ذهبت هدرًا، ولو أنهم تنازلوا عن كبريائهم في قطيعتهم للمسؤول السابق لما أهدروا كل تلك الأَموال!

سِمَةُ القطيعة هذه نجدها تتكرر وتتلوَّن؛ فكلُّ مسؤولٌ يأتي يَجُبُّ ما قبلهُ مُرددًا بيت أبي العلاء المعري: "إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ // لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل"؛ فالقطيعةُ حتمية وكأنَّها قدرٌ محتَّم، في حين أنَّ الاستشارة تعني استدامة الوصل، واستمرار البناء، وتوفير في مقدِّرات الوطن.

الإشكالية أن كثيرين يشخصنون الأمر، فيظنون أنَّ تواصلهم مع مسؤول سابق، أو صاحب فكرة تطوِّر من العمل إنمّا هو نقصٌ في كفاءتهم، وضعفٌ في قدراتهم!، وهذا الاعتقادُ في غيرِ محلِّه، بل أنه من الأوهام التي تحجبُ النفس عن الاستفادةِ من الخبرات السابقة التي تعاملت مع إشكاليات قد تختلفُ في ظاهرها إلا أنها متشابهةً في جوهرها.

إحداثُ القطيعة لا يكون في صالح البناءِ أبدًا، فهي تبطِئ من وتيرةِ الحركة لأنها تعيد "اختراع العجلة" التي تم اختراعها مسبقًا!، أما الإنسان الحصيف فهو ذلك الذي يطلبُ الاستشارة من ذوي الخبرة والتجارب وإن كانوا سابقين.

زرتُ أحد المسؤولين الكبار وهو في سنٍّ متقدم، ورغم أنه قد خرج من منصبه منذ ما يقارب الثلاثين عامًا إلا أنني وجدتهُ سديدُ الفكرِ، دقيقُ النظر وهو يتحدث عن أُسس واستراتيجيات التدريب، وهُنا تذكرتُ ما قاله لي أحد الأصدقاء من ضبَّاط الشرطة أنَّه حينما أوفدِ مع مجموعةٍ من زملائه إلى المملكة المتحدة لحضور ورشة تدريب كان من ضمنِ البرنامج لقاء معد مع جنرالٍ متقاعد للاستفادة من خبراته، الأمر الذي يعني أنهم ما زالوا ينظرون إليه بعد تقاعده كمصدرٍ مقدَّرٍ من مصادر الخبرة والمعرفة.

لقد بُنيت الحياة على تراكم الخبرات والمعارف، وليس على تجاهلها والقطيعة مع أصحابها وهم أثمن مصادرها، وفي هذا يحكي أحد الإيطاليين ويُدعى إرنستو سيرولّي Ernesto Sirolli في حديثه إلى مؤتمر "تيد TED" قائلًا: "قررنا نحن الإيطاليين أن نُعلّم أهل زامبيا كيفية إنتاج المحاصيل الزراعية، وصلنا هناك مُحمَّلين ببذور إيطالية إلى جنوب زامبيا، إلى ذلك الوادي الرائع المؤدي إلى نهر زامبيزي، وعلّمنا السكان المحليين كيفية زراعة الطماطم الإيطالية والكوسة وغيرها، وبالطبع لم يكن للسكان المحليين أدنى اهتمام بذلك لذلك وجب علينا أن ندفع لهم أجورًا حتى يأتوا، ويعملوا، وفعلًا كانوا يأتون. وكنّا نستغرب لأمر السكان المحليين، الذين لا يزرعون في مثل هذا الوادي الخصب.

لكن بدل أن نسألهم عن السبب الكامن وراء ذلك، قلنا لهم ببساطة "اشكروا الله على مجيئنا في الوقت المناسب تمامًا لإنقاذ الشعب الزامبي من الموت جوعًا"، وبالطبع نمت محاصيل الطماطم، وكان الأمر مذهلًا؛ حيث كنَّا نقول للزامبيين: "أنظروا ما أسهل الفلاحة!". فلمَّا نضجت الطماطم واحمرّ لونها خرج من النهر قرابة مئتي فرس بحر، دون سابق إنذار، والتهموا كل شيء..! فقلنا للزامبيين، "يا إلهي، أفراس النهر!" حينها أجاب الزامبيون، "نعم، ولهذا السبب لا توجد زراعة في هذه المنطقة". قلنا لهم: ولكن لما لم تخبرونا من قبل؟" فقالوا: لأنكم لم تسألوننا عن ذلك"!

القطيعة مع الخبرة والمعرفة هي أيضًا متفشية اجتماعيًا، فكم من خسر في مشاريع، أو أضاعَ من جهود لأنه لم يُقدم على استشارة أهل الرأي الحصيف سواءً كانوا بعيدين أم قريبين منه، ولو أنه واصلهم طالبًا رأيهم لوفَّر على نفسه وقتًا وجهدًا ومالًا..!

إذن سمةُ القطيعة في مجتمعنا هي من الظواهر الحديثة التي بدأت تترسَّخ في المجتمع مع تغير نمط الحياة في انتقالها من الجمعية إلى الفردية، ففي السابق كان الفردُ يعتمدُ كثيرًا على رأي الجماعة؛ إذ يطلبُ منهم العونَ بالرأي والمشورة، ويعتمدُ كثيرًا على أهل الرأي السديد، والنظر البعيد أن يشيروا عليه بما يفعل، لكننا اليوم بإزاءِ قطيعة الأخ لأخيهِ في الرأي، والمسؤول لمن قبله في الاستشارة، حتى أن الأفكار المكتوبة، والآراء المسكوبة لا تجدُ من يتبناها ولا من يتواصلُ مع أصحابها، فالقطيعةُ قائمةٌ هي أيضًا بين المؤسسات ومسؤوليها وبين المجتمع ومفكريه وكتابه، وإِعراضُ أولئك عن هؤلاء يزيدُ في فجوة القطيعة السلبية التي ليست أبدًا في صالح ترابط المجتمع ونماءِ الوطن وتطوُّره.