مضامين تنصيب ملك بريطانيا

 

علي بن سالم كفيتان

عندما تابع العالم بأسره تنصيب الملك تشارلز الثالث ملكًا لبريطانيا، تبادر إلى الذهن الكثير من التساؤلات حول ذلك التنصيب الباذخ ومضامين الكلمات التي تليت والصبغة العامة للحدث في لندن، ولماذا ما زالت دولة تمثل عرين الديموقراطية تتمسك بسلطة الملك وتضع له كل تلك الهيبة؟

لا شك أن الإنجليز يعون تمامًا أهمية ذلك ويؤمنون أنه يحقق المنفعة للشعب البريطاني ولهذا غصت الشوارع المؤدية إلى كنيسة ويستمنستر بالجموع لإلقاء نظرة على الملك الذي سوف يتوج في ذلك النهار، ومن المؤكد أن الملايين حول العالم تابعوا الحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم عدم انتمائهم للمملكة المتحدة، أو حتى دول الكومنولث، وقد يكون من بين هؤلاء من كانوا يومًا تحت نفوذ "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، البعض يقول إنه لا يعدو كونه حدثًا برتوكوليًا بحكم الصلاحيات المحدودة للملك، بينما يرى البعض شيئاً آخر.

رغم التحول الديموقراطي في المملكة المتحدة منذ زمن طويل، إلا أنها ظلت مؤمنة بقيمة وجود ملك أو ملكة، وعملت على إحاطة الملكية برداء القدسية الدينية، ولهذا وجدنا جل الكلمات والأدعية التي تليت في حفل التنصيب مستمدة من الإنجيل، في الوقت الذي يجابه فيه الدين في بقاع أخرى من العالم بقسوة، ويُنسب له الكثير من الأفعال المشينة ويلطخ بالإرهاب. هنا نجد مفارقة عجيبة، ففي الوقت الذي تتودد فيه الكثير من النظم في العالم العربي والإسلامي للغرب بمعاداة الدين وفصله عن السياسة، وجدنا الملك تشارلز يُنصّب بكلمات جميلة ورائعة من الإنجيل تعبّر عن قمة الإخاء والتسامح، ولا تكتمل القداسة إلا بزيت من كنيسة القيامة في فلسطين المحتلة. كل هذا يقودنا إلى مدى سمو الأديان ورفعتها؛ فجميعها آتية من عند الله، وتدعو لتعظيم الرب، فمهما بلغت السياسة لا يمكنها التحليق بدون جناح العقائد الدينية التي تهذب حياة الفرد وتعيده للفطرة السليمة بعيدًا عن الإلحاد والأفكار الشيطانية الأخرى.

تنصيب الملك حجّ إليه جمع غفير من ملوك وأمراء ورؤساء الدول والمندوبين، ولا أعتقد أن حدثًا كهذا حصل من قبل لأي دولة في العالم، فما هو عامل الجذب بين المملكة المتحدة والعالم رغم أنها كانت المستعمر القديم لكثير من بقاع الدنيا. الإجابة تُحتّم علينا قراءة الحصافة السياسية لهذه الأمة التي تمثل اليوم أرشيف العالم، بغض النظر عما إذا كنَّا نتفق أو نختلف معها؛ حيث تمثل الشخصية الإنجليزية المنضبطة أيقونة قادت الحضارة البشرية لحقب تاريخية مهمة، ففرضت نمط حياة متحضر يعيش الإنسان الكثير من فصوله إلى اليوم، لهذا يقدر العالم لبريطانيا صنيعها رغم اختلافه معها؛ فهي تسعى لمصالحها لا محالة بعقلية، لا يمكن وجودها مع أمة أخرى وتستطيع النفاذ إلى ذلك بهدوء وتؤدة، ولعل خروجها من الاتحاد الأوروبي بيّن لنا مدى إحساس هذه الأمة بتفردها وركونها لتاريخ عريق، لا تستطيع من خلاله الانصهار مع الآخرين، وإن كان الذوبان لا محالة حاصل؛ فالآخرون هم من يحب أن يذوب، وقال البعض إن الأصول التي تمتلكها المملكة المتحدة في العالم وما تتمتع به من نفوذ واحترام، فاق قدر المصالح التي يمكن الحصول عليها من خلال أوروبا الموحدة.

لقد أشرقت الشمس وغابت وتعالت الصيحات المُنددة بالملكية في شوارع لندن، ومع ذلك استمرت كطقسٍ لم تتنازل عنه بريطانيا، واستمرت العائلة الملكية تتوارث العرش والتاج والصولجان، مُطبّقة برتوكولها الصارم على أفرادها، فمن لا يلتزم يصبح من العامة ويُحرم من الميزات الملكية، ويسهل الشعب البريطاني كل ذلك ويشعر بالغبطة للملك، فهل تتعارض الملكية مع الديموقراطية؟ ولماذا نجحت بريطانيا في هذه التوأمة في عالم اليوم؟ ولماذا الدين الملاحق أصبح هو ما يعمِّد الملك؟ كلها تساؤلات تصاعدت مع حفل التتويج الأسطوري للملك تشارلز ولم يجد لها الناس إجابات شافية.

تُمثّل بريطانيا الحليف الأكثر مصداقية في العالم حفاظًا على مصالحها بالدرجة الأولى، ومن ثم مصالح حلفائها، وتظل خطيئتها التاريخية الأكثر فداحة هي غرس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ فالفلسطينيون هم الشعب الوحيد الذي ما زال يقبع تحت نير الاحتلال إلى اليوم، بينما يعمل العالم الغربي على رعاية الكيان الغاصب لفلسطين... فهل ستسعى بريطانيا لتطهير خطيئتها يومًا؟!