البخلاء بالحلال

 

هند الحمدانية

قد يتعجب المرء عندما يسمع أنَّه كان فيما مضى صنفٌ من البشر عندما يشعرون بدنو الأجل يأخذون كل ما يملكون من مال أو ذهب أو فضة وغيرها من أشكال الثروة ويوارونه الثرى في مكانٍ مجهول لا يعلمه سوى الله وهم، فإذا وافتهم المنية لم يعد هناك أثر لثرواتهم المكدسة ولن يكون هناك أمل في الميراث لِمَن هم مِن أصلابهم، هؤلاء هم البخلاء الذين شبههم الحكماء بالجمال العطشى وظهورها محملة بالماء.

فهل تستطيع اليد المضمومة أن تصافح الناس والحياة، وهل يستطيع البخيل أن يتذوق طعم الحياة وهو الذي من سوء ظنه بالله فقد لذة الإنفاق في سبيله والعمل بآياته: "فأما بنعمةِ ربكَ فحدث"، فعاش بذلك فقر الحياة الدنيا ومحاسبة الأغنياء الممسكين في الآخرة.

ولقد شَارَكَنَا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ صورًا مختلفة للبخل وأصنافًا شتى لأصحابه في كتابه المشهور "البخلاء"، حيث صورهم بأسلوب ٍ فُكَاهيٍ واقعي وثق فيه بدقة نفسية البخيل ولغة جسده التي تسبق كلماته وأسراره التي يحاول إخفاءها بما أوتي من جهدٍ وقوة، ولكننا في هذا المقال نتحدث عن صنف جديد من البخلاء الذين لم يسبقنا إليهم الجاحظ.

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.

يدعونا الله سبحانه وتعالى في آياتٍ عديدة في كتابه العزيز أن نأكل الحلال ونستمتع به طيباً ونتلذذ بمتع الله التي أَمَنَ الله بها على عباده من مال وبنون وأزواج وصحة وعلم وحكمة وغيرها مما لا يُعد ولا يُحصى من أرزاق الله الواسعة الطيبة الزكية، وبدوره الإنسان العابد الشكور يُظهِر أثر نعم الله عليه في ملبسه ومأكله ومشربه ويشكر الله بالقول والعمل والنية، وهنا يكمن مربط الفرس من مقالنا هذا، حيث نتعرف على صنف البخلاء بالحلال وهم الذين أكرمهم الله بشتى أرزاق الحلال الطيب فبخلوا على أنفسهم مِن أن يستلذوا بحلال الله عن حرامه ، فآثروا لذة حرامه وهم الذين أوتوا من مسببات الحلال ومصادره كل وسيلة وكل حُجَة.

البخلاء بالحلال أولئك الهاربون من أنهار الله العذبة إلى الأوحال، الساخطون على أنفسهم والقاطعون الأهل والأرحام، المحرومون رغم كثرة الأرزاق والأموال والبنون، الضائعون رغم كثرة العطايا والهبات، التائهون رغم توفر الأدلة والبراهين وبيان كل الاتجاهات، لا يستطيعون مد أيديهم بما فيه الكفاية لمصافحة الحلال الطيب المباح والمتاح، لا يملكون البصر والبصيرة ليتمتعوا بسحر لذة الطَرق على أبواب الحلال واكتشاف الأسرار الإلهية الكامنة خلف مباحات الله ورضاه.

أَكرَمَكَ الله بوفرة المال وَبَخلتَ على نفسك بتزكيته وتطهيره وإنفاق حق الله فيه، ثُم أَكرَمَكَ الله بالعلم فاستأثرت به لنفسك ولم تكرم عباد الله بنشره، ثم أَكرَمَكَ بالمكانة والمنصب فشحت نفسك بأن تسعى لمنفعة الناس وقضاء حوائجهم، ثم أَجَادَ الله عليك بزوجة وحليلة فاخترت لذة النظر إلى المحرمات ومصاحبة الخليلات، بخلت على هذه الروح التي تسكنك أن تستمتع برضا ربها، أن تلبي رغباتها تحت شرع الله وبمباركته، فتحولت إلى شحيحٍ صلدٍ قسى قلبه فغضب الله عليه.

أسوأ أنواع البخل أن تبخل على روحك مِن أن تتبارك بطيبات الله عليها، أن تحرمها هذا الشعور الرباني المليء بالسكينة والمودة ولطف الله والبركة التي تتنزل على القليل الحلال فيتضاعف ويتعاظم حتى تفيض به جوارحك فينقلب القليل إلى كثير.

اطمئن لن يفوتك شيء، فالمتع كلها ضباب إلا ما بارك الله فيه، وإذا استعصى عليك الذي بين يديك اطلب ما ترغب به بالحلال، كن كريماً على نفسك فهي الأحق بالكرم والجود، وكما قال الإمام علي رضي الله عنه:

إذا جادت الدنيا عليك فَجُد بها

على الناس طُراً إنها تتقلبُ

فلا الجودُ يفنيها إذا هي أقبلت

ولا البخلُ يُبقيها إذا هي تَذهَبُ

تعليق عبر الفيس بوك