كلاب النار

 

حمد الحضرمي **

 

إن النفس البشرية يتنازعها دائمًا وازعان، الأول: وازع الخير (من الله تعالى) بموجب الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، والثاني: وازع الشر (من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء) والإنسان لابد أن يتخلى ويبتعد عن الرذيلة والصفات السيئة لكي يتحلى بالفضيلة والصفات الحسنة، وقد تأثرت المجتمعات والأمم بالانحلال الأخلاقي وهجماته الشرسة، وانهارت صروح القيم ومكارم الأخلاق الإنسانية التي يتعامل بها الناس فيما بينهم منذ القدم.

وقد بدأ رويدًا رويدًا ينطفئ بريق القيم والمثل الأخلاقية الحميدة أمام الأهواء والشبهات النفسية والجسدية، والناظر والمتأمل لمن حوله يجد أن المجتمعات قد غلب عليها الشبهات، وانتشرت فيها الشهوات والمنكرات والمعاملات الربوية، وزاد الانحلال الفكري والثقافي والأخلاقي، وتفككت وتشتت وتدمرت الأسر، وكثرت الأمراض المعدية، والأمراض النفسية، قال تعالى "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النَّاس" (سورة الروم: 41) وقد بات علينا لزامًا لمقاومة هذا الانهيار الأخلاقي الرجوع إلى أسس الفضيلة المتمثلة في مكارم الأخلاق حتى تستطيع التصدي لمخاطر الانحلال الفكري والثقافي، ويتوجب علينا غرس ونشر مبادئ وقيم الأخلاق الإسلامية في المدارس والمعاهد والكليات والجامعات والأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية والعلمية والفنية بوسائل وطرق سهلة ميسرة، وذلك لمكافحة السموم المنشورة عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل قنوات الأقمار الصناعية والصحف والمجلات من مختلف دول العالم.

وللأسف الشديد قد استخدم الكثير من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في نشر الرذيلة والصفات السيئة القبيحة المذمومة والانحرافات والرذائل المحرمة، فأصبح الخطر الداهم الذي يحيط بكافة أفراد المجتمع (أطفال ونساء ورجال) أمرًا يتطلب منَّا التعاون يدًا بيد لمحاربة هذه الوسائل والصفات السيئة بكافة الطرق المشروعة، ليحيا أفراد المجتمع حياة طيبة كريمة بها قيم وفضيلة وصفات أخلاقية نبيلة. والحقيقة الدامغة الواضحة وضوح الشمس والثابتة في الشكل والمضمون، بأن الأخلاق الإسلامية الحميدة هي طريق النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، لما لها من ضرورة وأهمية في حياة الفرد والمجتمع، وإصلاح النفس والجسد والأسرة، بل وإصلاح المجتمع بأسره، وينبغي الوقاية والقضاء ومحاربة ومكافحة الأخلاق السلبية السيئة، لأنها أمراض فتاكة تهدم وتدمر الأفراد والمجتمعات، ونأمل أن تساهم مثل هذه المقالات في تحقيق ثمرات مرجوة ترفع الوعي العام بأهمية القيم والأخلاق الإسلامية الحميدة، ولسد الفراغ الكبير في الساحة الثقافية والحضارية، وغلق الباب أمام تيارات الانحراف والفساد الأخلاقي التي بدأت تهب علينا رياحها من كل حدب وصوب، وهي وافدة ودخيلة على مجتمعاتنا من الخارج، فعلينا التمسك بالقيم والأخلاق الإسلامية العظيمة، لأنها أخلاق مثالية تدعو إلى المحبة والسلم والسلام والتسامح والإخاء، وتنبذ العنف والفرقة والظلم والفساد، وقد كانت حياة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، خير دليل عملي لكافة النَّاس لما كان يدعو إليه من مكارم الأخلاق والصفات المحمودة، وقد قال عليه الصلاة والسلام " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وحديثنا اليوم أيها المتابعون والقراء الكرام عن كلاب النار وهم: أصحاب الغيبة والنميمة، فالغيبة هي ذكر المسلم في غيبته بما فيه، مما يكره نشره وذِكره، كما جاء في الحديث" قيل ما الغيبة يا رسول الله، فقال: ذكر أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته "رواه مسلم". والغيبة محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل لحم أخيه ميتًا، فقال تعالى "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه" (سورة الحجرات: 12). فقد شدد سبحانه وتعالى في النهي عن الغيبة وجعلها شبه الميتة المحرمة من لحم الآدميّين. وقال صلى الله عليه وسلم "يأتي الرجل يوم القيامة وقد عمل حسنات، فلا يرى في صحيفته من حسناته شيئًا، فيقول: أين حسناتي التي عملتها في دار الدنيا؟ فيقال له: "ذهبت باغتيابك الناس فهي لهم عوض اغتيابهم". فالغيبة مرضٌ خطير، وداءٌ فتاك، ومعولٌ هدام، وشر مستطير، وتؤذي وتضر وتجلب الخصام والنفور، وهو سلوكٌ يفرق بين الأحباب، وبهتان يغطي على محاسن الآخرين، وبذرة تنبت شرورًا بين المجتمع المسلم، وتقلب موازين العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور، وهو مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين الأهل والأخوة في البيت الواحد، وبين الجيران والأصدقاء في العمل، وهو دليل يدل على خسة المغتاب ودناءة نفسه المريضة الأمارة بالسوء. وقد تفككت وتشتت وتدمرت أسر وتفرق أخوة وأصدقاء بسبب الغيبة؛ لأن بسببها تقطعت روابط الألفة والمحبة بين الناس، وغرس بينهم الحقد والضغائن والكره، والغيبة تفسد على المسلم سائر عباداته، فمن صلى وصام واغتاب الناس ضاع ثواب صلاته وصومه، وكذلك الحال مع بقية العبادات، فالغيبة لها خطورة كبيرة، لأنها تكشف عورات الآخرين، وتنشر عيوبهم والحقد والحسد بين أفراد المجتمع والكراهية والبغضاء.

وعن أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه- قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أبو داوود. والغاية من غيبة الناس بعضهم لبعض لمحاولة الانتصار للنفس، والسعي في أن يشفي المغتاب الغيض الذي في صدره على غيره، فعند ذلك يغتابه أو يبهته، أو ينقل عنه النميمة، والغاية الأخرى الحقد على الآخرين والبغض بهم، فيذكر المغتاب مساوئ من يبغض ليشفي حقده ويبّرد صدره، بغيبة من يبغضه ويحقد عليه، وهذه الأفعال ليست من صفات المؤمنين أصحاب القلوب الطيبة الكريمة.

أما النميمة: فهي السعي للإيقاع في الفتنة، كمن ينقل كلامًا بين أخوين أو زوجين أو صديقين للإفساد بينهما، سواء كان ما نقله حقًا وصدقًا، أم كان باطلًا وكذبًا، وسواء قصد الإفساد أم لا، فالعبرة بما يؤول إليه الأمر، فإن أدى نقل كلامه إلى فساد ذات البين فهي النميمة، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، فأما في الكتاب فقد قال تعالى: "هماز مشاءٍ بنميم" (سورة القلم: 11) وأما السنة فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: " أنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول" متفق عليه. وقد أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله- عز وجل- لأنها داء فتاك عضال. فالنميمة هي السعي بين الناس بما يفرق بينهم، بأن يأتي مثلًا إلى أخ له أو صديق ويقول له: يذكرك فلان بكذا وكذا، ويسبك، ويشتمك، ويقول فيك كذا وكذا، والغاية المقصودة من كل ذلك التفريق بينهما. وصدق الشاعر عندما قال:

تنح عن النميمة واجتنبها

فإن النم يحبط كل أجرٍ

يثيرُ أخو النميمة كل شرٍ

ويكشف للخلائق كل سرِ

ويقتل نفسه وسواه ظلمًا

وليس النم من أفعال حرِ

والثابت بالأدلة الشرعية أن الغيبة والنميمة من الكبائر التي يزينها الشيطان للإنسان، فيقع في شراكه ومكره، ويظلم المسلم بها نفسه، والنميمة نوع خبيث من أنواع الغيبة، والغيبة نقل كلام الناس من بعضهم لبعض للإفساد بينهم، فاتقوا الله وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عمل بلا حساب، وغدًا حساب بلا عمل، وخذوا الحيطة والحذر من كلاب النار فإنها لا ترحم البشر.

** محامٍ ومستشار قانوني

تعليق عبر الفيس بوك