القرار المؤلم

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يكشفُ وزير في الحكومة عن تأجيل صرف منحة الباحثين عن عمل التي من المُقرر إدراجها ضمن مشروع قانون الحماية الاجتماعية المرتقب، فكيف نتوقع أثرها السيكولوجي على الباحثين عن عمل؟

من المُؤكد أنَّه مؤلم جدًا، وأنه يُعمِّق إحباطهم، في المقابل لن ينم عن تقدير لمُعاناة الباحثين عن عمل الذين وصل الكثير منهم إلى سن الثلاثين والأربعين عامًا، وهم ينتظرون العمل أو المنحة. فمن اليقين أن العيد لم يكن سعيدًا عندهم، فخبر التأخير/ التأجيل قد جاء على لسان معاليه قبل بضعة أيام من عيد الفطر المبارك، وكان بمثابة العاصفة رغم تحسن الأوضاع المالية للبلاد، ومُبشِّرات اقتصادية مستقبلية واعدة، فهل يُبنى عليها أم نتجاهلها؟ البناء يعني أننا نعيد صناعة التفاؤل، وتجاهلها يعني الاستمرارية في تكريس التشاؤم.

يفتحُ هذا المقال ماهية تفكيرٍ لم يعد صالحًا للتطبيق الآن؛ لأن بلادنا قد تجاوزت الخط الأحمر لحالة التشاؤم، وذلك عندما تزامن انكشاف مديونيتها الضخمة مع انهيار أسعار النفط، وهذا التفكير يقوده فاعلون يبالغون في الحذر المالي، ويربطون التطورات الاجتماعية بهاجسي تكرار الأزمات- لا قدر الله- أو استمرار القيود المالية على الإنفاق الاجتماعي، فكل ما يتعلق بهذا الأخير، يظهرون حجية ضمانة الاستدامة المالية أولًا، وإذا كان هكذا سيستمر القلق على مستقبل البلاد المالي رغم انتفاء أسبابه حتى الآن، فماذا عن مستقبل القلق الاجتماعي للبلاد؟

ويرجع الوزير سبب تأخير صرف المنحة إلى تسريبها وزيادة أعداد الباحثين عن عمل، وهذه حجة ليست قوية، ولا تُبرر التأخير، وينبغي أن ترى المنحة النور كما كانت مُقررة، وتضمينها في مشروع قانون الحماية الاجتماعية ينُم عن إدراك المُشرِّع لأهميتها السياسية والاجتماعية والإنسانية، وتضمينها، ومن ثم تمريرها ضمن مشروع القانون إلى مجلس عُمان يُدلل على طابعها السياسي والاجتماعي، وأنها أداة كذلك لمواجهة تحديات جيوسياسية وأمنية؛ إذ لا يمكن إغفال انعكاسات قضية الباحثين عن عمل على الأمن والاستقرار في بلادنا، خاصة بعد فتح كل أبواب البلاد، التي تدخل منها كل الأفكار والآيديولوجيات والديموغرافيات والأموال.. إلخ.

معظم مشاكلنا القديمة الجديدة في مسألة "التطبيق"، وبالتالي لا يُمكن أن تحقق خطط الاستدراكات أو تخفيف الآلام الاجتماعية، تأثيرها الإيجابي الشامل في ظل استمرار مشكلات التطبيق. من هنا يمكن القول إن مشروع قانون الحماية الاجتماعية ينبغي أن يضمن أهم حقوق المجتمع، مقابل الواجبات المُلزم بها، وهي: دفع الضرائب والرسوم بصورة منتظمة، هذا منطق النظام الجبائي الذي قد تتبناه أي دولة، وهو يُطبَّق في موطنه الغربي بمنظور الحق والواجب، وقد أصبح راتب البطالة والتأمين الصحي من أهم الحقوق التي لا يُمكن التنازل عنها في الغرب. وذكرنا في إحدى تغريداتنا (على تويتر) أننا ننظر إلى قانون الحماية الاجتماعية بمثابة الدور الاجتماعي للحكومة، بعد تبنيها النظام الجبائي كمصدر من مصادر دخلها.

ودون ذلك التكييف- أي الواجب والحق- فأين يُمكن أن نبحث عن دور الحكومة في عصر الجبايات؟ وهل ينبغي أن يموِّل المواطن خزينة الدولة من جيبه دون أن يكون له حق فيها؟

هنا قضية حقوقية تُثار في علاقة المجتمع بالحكومة في عصر الجبايات، بعيدةً كل البعد عن أية إكراميات أو منح، كما إن مسألة تأخير أو تأجيل منحة الباحثين في جانبها الإنساني الصرف، لا يُعتد بالظروف القهرية التي يعيشها الباحثون، فهناك شباب في ذلك السن المتقدم نقابلهم بحكم تموقعاتنا الاجتماعية، لا تتوافر للكثير منهم مصروفات يومية، نظرًا لمحدودية وضعف مرتبات ومعاشات أولياء أمورهم، ومثلهم إن توافرت لهم، فهي لا تتعدى 300 بيسة في اليوم! وهؤلاء يتقطع القلب على أوضاعهم، وننصدم بمثل هكذا تأجيل أو تأخير، والذي ربما يكون وراءه أنصار الأثر المالي على موازنة الدولة، وهم الذين كانوا ضد رفع المرتبات عام 2011، وتحسين الأوضاع الاجتماعية، ولا يزالون يوجهون الطعنات لمثل هذه التطورات ذات البعد الاجتماعي المُستحق.

هؤلاء سيكونون دائمًا ضد كل محاولة سياسية صادقة لتصحيح بعض الأوضاع الاجتماعية التي تأثرت بالتحوُّلات المالية، أو خطوة جادة لتحقيق التوازن بين البُعديْن المالي والاجتماعي، فهل هم وراء أو تأجيل منحة الباحثين عن عمل؟ وقبلها تأجيل التأمين الصحي؟!

ومهما تكن من تجاذبات أو اختلافات داخل مجلس عُمان بجناحيه الشورى والدولة، على مشروع قانون الحماية الاجتماعية، ومهما كان كذلك من قوة نفوذ أنصار الأثر المالي وضمانة الاستدامة المالية؛ فلدينا ثقة في عاهل البلاد المُفدى- حفظه الله- لأن جلالته يُولي هذا القانون اهتمامًا خاصًا، كما هو الحال في مسألة تقييد حق منحة كبار السن، وتأكيد مفهومها المُطلق.

لذلك نُؤكد مجددًا، أنه لن تتحقق الحماية المجتمعية في هذا القانون المرتقب، إذا ما خلا من منحة الباحثين عن عمل أو التأمين الصحي.