"مسكد الزاهية"

 

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

دائمًا ما ينتابنا الشوق والحنين إلى مسقط القديمة- "مسكد" كما كان يسميها الأولون- مدينتنا التي ولدنا فيها، وعشنا بدايات أعمارنا في جنباتها، ومهما ابتعدنا عنها لا نلبث إلّا أن نعود إليها، منجذبين نحوها بعشق أبدي لا ينتهي.

"مسكد" هي مقر نشأتنا الأولى، وبدايات خطواتنا، والشاهد على طفولتنا، وهي الحضن الدافئ الذي ضمنا أعوامًا عديدة في أجمل أيام حياتنا وأسعدها وأنقاها. ومسكد زاهيةٌ بأهلها الطيبين، ومبانيها المُميزة، وجبالها العالية الملتفة حولها كأنها حرس ضمن حراسها الكثر الذين ذادوا عنها عبر الزمان؛ لأنها مسكن السلاطين وبيت الحكم ومصنع القرار ومستودع الجمال والذكريات.

لقد ترسخت ذكرياتها في أعماق قلوبنا وأبت هذه الذكريات أن تغادرنا، وحبها عامر مستمر في وجداننا لا يندثر. وهذا هو الحب للمكان والإخلاص له والتعلق بمكوناته، أن نشعر به نبضًا حيًا حقيقيًا لا يغادرنا، متجسدًا في الجمال وناطقًا بالمحبة.

مسكد الزاهية متربعة دومًا على قلوبنا بمستواها الراقي ومكانتها الرفيعة، لا يأفل نجمها عنَّا أبدًا ولا يغيب.

ولأن "مسكد" لم تكن بالنسبة لنا مجرد أبنية وطرق وممرات تصل البيوت بعضها ببعض وبشر لا وجوه لهم عابرون؛ بل هي كائن حي مفعم بالتفاعل الطيب بين أفرادها في أحيائهم السكنية: "الميابين وحلة التكية والمدبغة والطويان وحلة الشيخ والدلاليل وحلة العور والجفينة وولجات والزدجال" وغيرها من الأحياء المسقطية العزيزة.

جميع أهالي مسقط يعرفون بعضهم البعض، وكانوا فيما مضى يلتقون في منازلهم أو مسجد الخور أو المدرسة السعيدية أو نادي عُمان أو السوق أو شاطئ بحر كلبوه والمغب أو رصيف الخور البحري الذي يطل على قصر العلم.

والمسكديون حين يلتقون لا يشعرون أنهم أغراب عن بعضهم البعض؛ بل يشعرون وكأنهم أهل وجماعة واحدة متآلفة، بأسلوب حياتهم وتعاملهم واعتياداتهم وفرحهم وهدوئهم ومزاجهم المسقطي المتواضع.. يربطهم انتماؤهم للزمان والمكان، وتجمعهم أرواحهم بالمحبة لمدينتهم المسقطية الجميلة، وهم على عهد المحبة والوفاء باقون.

 

هذا الحب الكبير لمسقط وأهالي مسقط، جعلنا نتمسك متعلقين بما تبقى من الشخصيات المسقطية وأمكنتها ودروبها كتعلقنا بما تبقى من سنين أعمارنا؛ فالسنون لا تثبت على حال، فقد قضت على جزء من مباني مسقط وطوت رحلة العديد من الشخصيات المسقطية الذين غادروا الحياة، وبقي من بقي من أمكنة وشخوص متمسكين بهم حاضرين معنا.

الأماكن المسقطية من مبانٍ ودروب وبحر وجبل، جزء من ذاكرتنا التي لا تُمحى؛ حيث كنا نقضي أوقاتًا سعيدة لا تُنسى في هذه الأماكن، وكنا نسير أحيانًا إلى النادي الرياضي الثقافي الوحيد، والذي ما زال يحمل اسم "نادي عمان" رغم مغادرته هو أيضًا مسكد إلى مكان أكثر سعة.

نتذكر المدرسة السعيدية التي ما زالت قائمة بصرحها العتيد، شاهدة على أيام عشناها فيها. ومن يزور المدرسة السعيدية المسقطية من تلامذتها الأوائل، لا يزال يسمع ضحكات الصغار وفرحهم في أروقة المدرسة تتردد في الذاكرة، ولا يزال بالإمكان الإنصات إلى أحاديثهم البسيطة السعيدة بين ممرات الصفوف؛ وكأنها لم تغب في مسافات الزمان!

إنه الحنين لشيء جميل من الانتماء نعود إليها لنتحد بها، ودائمًا ما تستقبلنا مسكد بحب وترحاب، ونكادُ نشعر بها حين نذهب إليها، فتحدثنا عن ذكرياتنا الجميلة فيها وأيامنا الماضيات الرائعات، وأعمارنا المبكرة التي انقضت، وسعادتنا المرحة، كما تبث فينا كلما عدنا إليها روح الصفاء والنقاء والهدوء والطمأنينة والسلام؛ لأن مسكد هي الحضن الدافئ وواحة الذكريات.

وما ينقص مدينة مسقط الآن، "قاعة لقاءات للمسقطيين" لتكون بمثابة "سبلة عامة" يجتمع فيها أهالي مسقط في أفراحهم وأتراحهم وفي لقاءاتهم المتنوعة المختلفة، وقد التقى عدد من المسقطيين المُخلصِين قبل أيام لوضع إطار تأسيسي لتحقيق هذا المراد.

وهذا المشروع بحاجة إلى دعم مادي ومعنوي من أبناء مدينة مسقط، أنفسهم ومن الذين أعطتهم مسقط بسخاء من خيرها ونعيمها، ونحن معًا ليرى هذا المشروع النور، بإذن الله تعالى.