د. إسماعيل بن صالح الأغبري
بعد عشر سنوات عجاف مما يُسمى بـ"الربيع العربي"؛ حيث أتى على الدول فقصم ظهورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية وخلخل نسيجها الاجتماعي، وبعد تدخلات سلبية عربية وإقليمية وغربية في سوريا عن طريق دعم عشرات من الجماعات المسلحة ذات الأيدلوجيات المختلفة المتصارعة بينها، والتي تمتلك مختلف أنواع الأسلحة ما أطال أزمة الصراع الدموي، وبلغ الصراع أشده أن صارت كل دولة عربية متدخلة في سوريا خليجية أو غير خليجية تضخ المال وتقدم السلاح وتسهل تدفق المُقاتلين منها إلى سوريا، وبعضها تقيم لهم مراكز تدريب ليتعلموا فنون القتال وحرب الكر والفر!
لم تبق استخبارات إقليمية أو عربية أو دولية، إلّا ودخلت سوريا من نوافذها لا من أبوابها المشروعة، بعضها لتصفية حسابات مع نظام الحكم في سوريا، وبعضها لإيجاد نظام موالٍ لها، وبعضها لتخلو ساحة الجامعة العربية لها، فقد ضعف شأن الدول ذات الثقل السكاني والجغرافي والتاريخي كالعراق ومصر ثم سوريا، وبعض الدول تتدخل في سوريا لتحقيق أطماع جغرافية من الأرض السورية، وبعض التدخلات للأسف نتيجة طائفية بغيضة ضد نظام الحكم في سوريا، وهذا منزلق خطير في سياسة الدول، وأخرى تتدخل لما بينها وبين إيران من تنافس وصراع، وبعضها لتصفية حساباتها مع المجموعات الموالية لإيران؛ إذ إن تغيير نظام الحكم في سوريا يعني وقف وصول السلاح منها إلى تلك المجموعات التي تؤمن بضرورة تحرير كل فلسطين، ولا تعترف بوجود إسرائيل، كما إن تغيير النظام في سوريا يعني خسارة المقاومة في فلسطين حليفًا يؤمن بضرورة تحرير وتحرر فلسطين، على أقل تقدير الأراضي المحتلة عام 1967.
وقد تسبب التدخل غير الحميد لبعض العرب وغيرهم في إطاحة عشر سنوات من الأزمة بكل المنجزات السابقة لسوريا، كما تسبب تدخلهم السلبي بخروج مناطق جغرافية عن سيطرة الدولة السورية الوطنية، وما غارات إسرائيل وقصفها المتكرر للبُنى العسكرية والمدنية السورية إلا من آثار تدخلات بعض العرب في سوريا فكيف تجتمع جامعة عربية للتنديد بالتدخلات الإسرائيلية وهم غارقون في التدخل في الشأن السوري؟!
أُخرجت سوريا من الجامعة العربية بصرف مقعدها إلى غير الحكومة السورية المعترف بها حتى في منظمة الأمم المتحدة والتي يصدح فيها مندوبها عند مناقشة الأزمة السورية فكيف مندوب سوريا في المنظمة الدولية بينما محجوب مقعده في جامعته العربية وسوريا مؤسس أصيل لها؟!
والسؤال المشروع: أين أقدام ومواقف سلطنة عُمان من سوريا؟ هنا نؤكد أن لسلطنة عُمان دبلوماسية واعية قارئة للمستقبل ومبصرة للواقع وسياسة راسخة خالية من التقلبات والانفعالية والمزاجية ومتى ما خالطت المزاجية السياسة أو كانت الانفعالات جزءًا من السياسة تكون الدول بدون دبلوماسية ولا سياسة.
وهنا نؤكد أن العلاقات المتوازنة وتجنب الولوج في بؤر النزاع منهج راسخ في الدبلوماسية العُمانية.
سياسة الانتقام وتصفية الحسابات لا تنتظم أبدًا مع الدبلوماسية العُمانية، وإلّا كان بإمكان سلطنة عُمان دعم المُنشقين عن الحكومة السورية قبل ما يسمى بـ"الربيع العربي" عندما خرج عبد الحليم خدام مغاضبًا ومعارضًا لنظام الحكم القائم في سوريا، غير أنها لم تفعل، كما لم تطلق وسائل إعلامها لتعميق الشقاق داخل سوريا. وسلطنة عُمان لم تسترجع ما كان من دعم قوي للمعارضين العُمانيين وفتح مراكز تدريب لهم وتمويل لهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الميلادي العشرين المنصرم؛ ذلك أنها تعمل بمبدأ "عفا الله عما سلف" و"فاعفوا واصفحوا".
وكرّست الدبلوماسية العُمانية مبدأ "فأصلحوا بين أخويكم" و"الصلح خير"، لذا لا تعرف سلطنة عُمان سياسة الانتقام، وهذا ساعدها في التقريب بين وجهات النظر.
في الشهور القليلة الماضية، تتسارع وتيرة الترحيب بسوريا من معظم الدول العربية التي كانت من قبل لها رأي مغاير عن سلطنة عُمان، لكن تغيرت لهجة الإعلام الرسمي أو المقرب من الحكومات العربية من سوريا، وأوقفت بعض الدول العربية تمويل الجماعات في سوريا بالمال والعتاد، وصارت تدعو اليوم إلى لَمِ الشمل وجمع الصف العربي، وتطور الأمر إلى أن صارت بين هذه الدول العربية وبين سوريا زيارات غير مُعلنة تمهيدًا لعودة العلاقات.
وبعض الدول العربية اعترفت بأنها تسرعت عندما سحبت أو قطعت العلاقات!
كما إن دولًا خليجية استقبلت الرئيس السوري، ودول أخرى تستعد لاستقباله، وأخرى تلتقي بوزير خارجية سوريا، كما صارت دول عربية لا تمانع من عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والتي كانت من قبل سببًا في حجب مقعد سوريا من الجامعة العربية؟!
بقي عدد قليل من الدول العربية التي تعارض عودة العلاقات مع سوريا أو دعوة سوريا لحضور اجتماعات أو قمم الجامعة العربية، ولعل ذلك نابع من خوف هذه الدول من أن تفقد دورها في الجامعة العربية، خاصة إذا ما أسفر ذلك عن تصاعد قوة مصر والعراق وسوريا؛ فإن هذا الثلاثي مركز ثقل الجامعة العربية ومحورها.
وقد يكون السبب هو استضافة هذه الدول للمعارضة السورية، وما قامت به من تسويق لها، ومع ذلك فإنه من المرجح أن يتم التخلي عن المعارضة والتبرير لاحقًا لعودة العلاقات مع سوريا.
تركيا المجاورة للعراق، والتي كان لها موقف متصلب من سوريا مرارًا، أعلنت أن قيادتها مستعدة للقاء قيادة سوريا والاجتماع بها، كما إن وزير خارجيتها أعلن أكثر من مرة أنه مستعد للقاء نظيره السوري، إلّا أن التصلب في عدم اللقاء حتى الساعة يأتي من الجانب السوري، ذلك أن الحكومة السورية تريد دلائل حقيقية كالانسحاب التركي من الأراضي السورية، وقطع الدعم عن المعارضة المسلحة، وعدم إيوائها، ومع ذلك فإن التنسيق قائم بين وزيري دفاع سوريا وتركيا في اجتماعات ترعاها تارة إيران وتارة روسيا.
وثمة سؤال آخر يطرحه الشارع العُماني هو: لماذا إذن قامت قيامة عدد من الكُتاب والصحفيين ومن يسمون بالمفكرين على سلطنة عُمان عندما لم تقطع علاقاتها مع سوريا؟ ولماذا كانوا يطالبون بأن تحذو الدبلوماسية العُمانية الراسخة في دبلوماسيتها حذو دبلوماسيات كثيرة التقلب كثيرة الانفعال والمزاجية؟
فقد هاجم كُتاب وصحفيون ومن يسمون بـ"المفكرين" سلطنة عُمان عندما استقبلت الرئيس السوري، ثم ماذا هم اليوم فاعلون إذا انطلق القطار العربي نحو سوريا؟ وما موقفهم إذا أقبل الرئيس السوري على العواصم العربية في زيارات رسمية؟! يا ترى هل سيجف مداد أقلامهم من بعد ما سال ضد عُمان سمًا زعافًا؟ ما موقفهم عندما يعود سفراء الدول العربية إلى دمشق؟! ما موقفهم عندما يعود مقعد سوريا في الجامعة العربية إلى الحكومة السورية؟
لطالما غمز هؤلاء الكُتاب والصحفيون سلطنة عُمان ولمزوها بدعوى أنها تغرد خارج سرب العرب؟! ها هو الآن سرب العرب يعود لذات ما قررته الدبلوماسية العُمانية، ويتبين للسرب وإن لم يصرح بذلك بأن المنهج السياسي العُماني هو الصواب.
إن هؤلاء الصحفيين وتلك القنوات فقدت مصداقيتها، فلا هَمَّ لهؤلاء إلا تقطيع العلاقات وتسميم الصلات ومسايرة السياسات الانفعالية رغبا أو طمعا أو رَهَبا.
وقف هؤلاء ضد سلطنة عُمان في علاقاتها مع إيران ثم ها هو الحجيج العربي سار إلى إيران، وتستعد دول عربية مختلفة لاستقبال الرئيس الإيراني ووزير خارجية إيران، وارتفعت العلاقات والتمثيل الدبلوماسي مع إيران إلى رتبة سفير فلماذا حرام على عُمان الاستقلال السياسي وحلال على غيرها ذلك؟
وقف هؤلاء ضد عُمان عندما قررت عدم قطع العلاقات مع مصر أيام توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم صارت الدول العربية سعيًا نحو مصر رغم بقاء اتفاقية كامب ديفيد ورفرفة علم إسرائيل في القاهرة ورفرفة علم مصر في تل أبيب!! ثم أقامت الأردن علاقات مع إسرائيل وأبرمت اتفاق "وادي عربة" وسلّمت الدول العربية بذلك، ثم اعترف جميع العرب بإسرائيل في حدود ما قبل عام 1967! بل تسارع قطار التطبيع العربي مع إسرائيل ولم نر هجومًا عليه، أما زيارة نتنياهو لسلطنة عُمان فقد تم تغطيتها والتشنيع عليها، فلماذا لا يتم التشنيع لكل من زاره نتنياهو وطبَّع مع إسرائيل سرًا وجهرًا؟ لو فعل هؤلاء الصحفيون ذلك لقلنا إنه مبدأ عليه الصحفيون سائرون.
خلاصة الأمر.. إنَّ سلطنة عُمان لا تعرف ازدواجية المعايير، ولا دبلوماسية المزاجية، ولا سياسة الانفعالات؛ فهي مع سوريا الدولة، وإن كانت سلطنة عُمان من حيث المنهج السياسي تختلف عن رؤى وأيدلوجية سوريا، غير أنه ليس من دولة وصية على أخرى، وهذا هو جوهر الأمر.