قلوب قاسية!

 

حمد الحضرمي **

 

تمر على حياة الإنسان مراحل مختلفة منذ طفولته إلى شبابه وحتى بلوغه سن متقدمة من العمر، وتؤثر كل مرحلة تمر على حياة الإنسان في أفعاله وتصرفاته، ويكتسب خلال هذه المراحل صفات حميدة وصفات سيئة تكون ملازمة له طوال عمره- إن لم يسعَ لتغييرها- ويكتسب هذه الصفات من خلال مُعايشته مع أسرته في البيت أو من خلال أصدقائه وزملائه في بيئة المدرسة والعمل.

ومن هذه الصفات السيئة المذمومة والتي تكمن في نفس الإنسان وتتطور حتى تتغلب على نفسه وتسيطر عليه هي صفة قسوة القلب والغلظة والفظاظة، وللقلب قيمة عظيمة ومنزلة رفيعة لدى الإنسان، فالقلب سيد الأعضاء ومصدر سعادتها وشقائها وصلاحها وفسادها، وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، إذن فالقلب هو أساس الأعمال السليمة وغير السليمة، لأن بداخل قلب كل إنسان صفات مستحبة كالحب والخير والعطاء والوفاء وغيرها، وأيضا صفات مذمومة كالبغض والشر والبخل والخيانة والقسوة وغيرها من هذه الصفات غير المستحبة.

الإنسان صاحب القلب الطيب الرقيق  يمتلك نعمة عظيمة، وما من قلب يحرم من رقة القلب إلا وكان الله عليه غضبان، وما رق قلب لله وانكسر إلا كان صاحب هذا القلب سباق للخيرات. والمصيبة أن قلوب بعض الناس قاسية لا تتأثر أبدًا، حتى عندما تُذكر آيات الله وتقدم له المواعظ الحسنة والمحاضرات والندوات الدينية والاجتماعية القيمة، ولكن لأن مثل هذه القلوب قاسية ليس بها رحمة ولا عطف تجدها لا تخشع ولا تلين، فالقلب أصبح ميت متعلق بالدنيا، وأصبحت الدنيا هي همه وشغله، وانشغل بملذاتها وشهواتها، فعنئذ يبدأ قلب الإنسان بالتصدي شيئًا فشيئًا، حتى يصاب القلب الأبيض بالسواد ويكون كالظلام، وعندها يصبح قلبه قاسيًا كالحجارة أو أشد، وقال ابن عقيل رحمه الله:

يا من يجد من قلبه قسوة

احذر أن تكون نقضت عهدًا

قسوة القلوب مرض أصاب ناس كثر، وهذه القساوة دمرت القلوب، وصار الإنسان صاحب القلب القاسي يتصرف تصرفات خاطئة، ووقع بهذه التصرفات في الوحل الذي أدى إلى الانحطاط الأخلاقي، وظهور الآفات الإجتماعية الخطيرة كالمخدرات والخمور والدعارة وغيرها، وبدأت تتفكك الأسر وتتباعد وتنقطع صلة الأرحام وتنتهي العلاقات الطيبة بين الأقارب والأخوة والأخوات والأصدقاء والجيران، كما تغيرت التعاملات والتصرفات بين الناس وأصبحت بعيدة عن القيم والمبادئ والأخلاق الحميدة، وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة الآية (74) بكل وضوح بأن القلوب أصبحت قاسية فقال تعالى "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون".

وعندما أصبحت القلوب قاسية قست على الجميع، فلم تبقي ولم تذر لا القريب ولا البعيد، فقد طالت الصغير والكبير والأب والأم والإخوة والأخوات والأزواج والأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء، والمصيبة عندما تقسو القلوب على الآباء والأمهات- الذين كانوا لهم علينا أفضال لا تعد ولا تحصى- فيعامل الابن أباه أو أمه معاملة قاسية بلا رحمة ولا عطف، فيرفع صوته عليهما ولا يلبي لهما طلباتهما، ولا يزورهما، فهذه القلوب القاسية لا ترحم، وبمثل هذه القساوة تنقطع صلة الأرحام بين الأقارب، لأسباب تافهة لا قيمة لها.

ومن نتائج ومظاهر قسوة القلوب سوء معاملة الزوج لزوجته، فالزوجة الصالحة تركت بيت أبيها التي كانت تعيش فيه عيشة طيبة، وانتقلت إلى بيت زوجها لتعيش فيه عيشة مكرمة، ورغم الصعاب والتحديات التي تمر عليها في بيت زوجها، والذي يذيقها المرارات، وهي صابرة محتسبة، ويتعدى الأمر أحيانا إلى سبها وضربها حتى أمام أبناءها، فهل لمثل هؤلاء البشر قلوب؟! وهل لهم أحاسيس ومشاعر يحسون ويشعرون بها لكي يتعاملون بها مع الآخرين بإنسانية.

ومن مظاهر قسوة القلوب أيضا تسلط الأغنياء على الفقراء وعدم مراعاتهم، وعدم تقدير ظروفهم وعدم مساعدتهم وتلبية احتياجاتهم، وللأسف الشديد أصبح أغنياء اليوم أغلبهم لا يزكون ولا يتصدقون ولا يتبرعون، ويقضي بعضهم أمواله على اللهو واللعب، فإلى متى أيها الأغنياء ستبقى قلوبكم قاسية لا تأخذكم رأفة ولا شفقه ولا رحمة بهؤلاء الناس البسطاء، كالأيتام والأرامل والمطلقات والمعاقين والمساكين والمحتاجين، فمتى سترق قلوبكم وتحن عليهم، أليس في قلوبكم رحمة؟ ألم تعلمون بأن نبي الرحمة يقول في الحديث "الراحمون يرحمهم الرحمن" ويقول في حديث آخر "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

إنني وأنا أكتب هذا المقال مر أمام مخيلتي أحداث ووقائع كثيرة قد شاهدت بعضها بعيني، وقد وقعت بعض أحداثها أمامي، وسمعت عن بعضها بإذني، وقرأت عن غيرها الكثير، وهي أحداث ووقائع حزينة مؤلمة تدمي القلب، فإلى متى ستكون قلوبنا هكذا قاسية، فلا يرحم الإبن أبواه، ولايعطف الأخ على أخيه، ولا يقدر الزوج زوجته، ولا تطيع الزوجة زوجها، ولأسباب بسيطة تتفكك وتتشتت وتتدمر أسر.

 

الأمر يتطلب منَّا البعد عن الحسد والحقد والبغضاء والتكبر والغرور، والتمسك بالقيم والأخلاق النبيلة كالمروءة والشهامة والمحبة والإخاء، لأن كل ذلك له تأثير بالغ في سلوك وتصرفات الإنسان، ونرجو من الله أن تكون قلوبنا قلوب رقيقة كلها رحمة ومودة ولطف ولين، وأن نبتعد عن القساوة والعنف والغلظة والجفاء، حتى نحيا حياة سعيدة كلها قيم وأخلاق نبيلة.

** محامٍ ومستشار قانوني

تعليق عبر الفيس بوك