حول جريمة مقتل الشيخ

 

سالم بن محمد العبري

هذه الجريمة الموصوفة التي اقتُرفِت في ليلة من ليالي رمضان بكل حرمته واعتباره شهر رحمة وإيمان وهدى، وفي ليلة، ربَّما يجزم البعض باحتمالية أن تكون ليلة القدر المباركة، تأتي هذه الجريمة لتستهدف شخصًا وجهه يبعث على الحياء، بشيبه وبهائه وبما تُكنّه له الغالبية من احترام وتقدير، إنها جريمة يندى لها الجبين بالطريقة والوسيلة والتشويه والإلقاء في فناء لا يليق بإنسان.

جريمة لا يمكن تحملها، أو السكوت عليها، أو ترك التحقيقات تأخذ مسارًا عاديًا قد تبطئ، وقد يصيب الجميع هول المصيبة، فتتشعب معها السبل والتحقيقات والاستقصاءات، فتبرد ويأتي العقاب بعد لأيٍ وكأنه لم يكن.

لذا أقول يجب أن تعنى هذه القضية بمتابعة عالية وأن يحدد للعاملين بالتحقيق الوقت اللازم والسريع، لتصدر المحكمة أحكامها في وقت لا يتعدى الأسابيع، وحين تصل المحكمة إلى قرارها وحكمها، يتوجّب أن يُنفذ فورًا وعلانية وأن يشهد التنفيذ ذوو الشأن وطائفة من المواطنين ليكون القصاص في محله ولينتج الردع والرهب الذى يحمي النفوس البريئة والسلم الاجتماعي وليكون عبرة لمن تسوّل له نزعاته عملا إجراميًا.

أما عن الشيخ فإنني أعرفه عن قرب وعن بعد، عن قرب لأنني أتابع نشاطاته، وتصرفاته، وسمو ممارسته، وأظنه- ولا نزكي على الله أحدًا- بقية ذلك الجيل المميز من شخصيات آبائهم وآبائنا.

ومعرفتي به عن بعد حين فكنت أتابعه من حيث تأتيني ردود مواقفه وحزمه وردعه لبعض التصرفات التى يقوم بها من هم لم يسبق لأجيالهم ممارسة العمل والمسؤولية وخدمة الوطن والمواطنين، وكنت أقول لمن لا يدرك مبررات مواقفه ستعرفون قدر الشيخ محمد بن سعود حين تفتقدونه، والآن قد يتذكر الغافلون مقالتي عن الشيخ، وشهادتي في حقّه حيًا وميتًا.

أما عن آخر لقاءاتي معه، فقد كان لي لقاء قبل شهور مضت؛ حيث ذهبت إلى بيته الذي يضم المجلس الكبير ومكتبًا له بجواره وقد التقيناه في مكتبه، وكانت الغاية من زيارتي له شكره على ما قدّم من خدمة عاجلة؛ حيث أرسلت له الأخ محمد بن منصور ليأخذ توقيعه على استمارة خاصة بحفر بئر للطوارئ بمنطقة "المنيزف" وكان لا بُد من أخذ الموافقات من وكلاء الأفلاج وكانت الأفلاج التي تقع في حيز الفسحة القانونية حوالي ثلاثة أفلاج تتبع لمسؤولية الشيخ- رحمه الله- وكان لكثرة المطالبات المقدمة في شؤون هذه الأفلاج أنْ أوقف توقيع وكلاء الأفلاج إلا بعد مراجعته شخصيًا. غير أنّ ابن منصور أخبره أنّ هذه الاستمارة من سالم بن محمد العبري، ولم يكد ينهي ابن منصور مقالته له حتى أخذ الشيخ محمد بن سعود الهنائي الهاتف واتصل بالوكلاء، وقال لهم: سيأتيكم الآن محمد بن منصور فوقّعوا الاستمارة، وقال لمحمد اذهب سريعًا وخلصها وعُد إليّ لأوقع وأختمها لك، وتم الأمر بما توقّعت من الشيخ وكما هو أهل له.

وفي أحد لقاءاتي به قلت له: أتذكر حين كان والدكم الشيخ سعود أصيب بوعكة صحية في نهاية الخمسينيات أو مطلع الستينيات وقدم آباؤنا لزيارته والاطمئنان على صحته؟ قال: نعم. قلت: كنت أتعجب وأتمثل بتلك المودة والحب المتبادل بينهم إلى حد أن يُقال: إنه حبٌ مالك، وصرت أقول كيف قد يكون بين هذه الشخصيات المسؤولة بعض شقاق على أمور بسيطة تنال أمور جماعاتهم، لكنني أرى اليوم أن تلك المواقف هي لبنة بناء الوطنية والسيادة على مستوى اللبنات، (القبائل) وعلى مستوى الوطن الواسع الكبير، لذلك قام "العبريون" مع السلطان سعيد بن تيمور بدعم جيش البريمي، لأن موقفه موقف حماية السيادة الوطنية.

ثم شاءت الأقدار أن أجلس بجانبه بعد شهور حين وفاة أخيه الشيخ إبراهيم بن سعود، فقد كنَّا نتابع الجماعة الذين تولوا تغسيله وتجهيزه، فلاحظ أنني واقف بجانبه فلمّا جرّ أحدهم له كرسيًا أبى إلا أن نجلس معًا وأُتوا لي بمقعد آخر وجلست عن يمينه إلى أن خرجنا معًا خلف الجنازة، ثم تقدم وأمَّ الناس في صلاة الجنازة على أخيه ولم ينتدب أحدا مكانه. فلمّا انتهى الجمع من الدفن وقد غابت الشمس وتكاد لايُرى شعاع لها عدنا على عجل وما كان لي أن أبقى لليوم التالي والعجلة لم تسعفني في الاعتذار للشيخ وقتها.

ثم عدت في آخر آيام العزاء مع الحادية عشرة ظهرا فلما هبّ البعض يتأهب للمغادرة والصلاة، قال لي: "ستصلي معنا؟ قلت: نعم أيها الشيخ وأتغدى بصحبتكم أيضا، وهذا ما أنتويت أن أفعله، فَسُّر، وخرجنا للصلاة ثم جلسنا لمائدة الطعام، وظل يكرر لي "أنت أكرمتنا اليوم".

وخرجنا وحاله لا يشير أننا بعد أسابيع سنودعه أيضاً ليلة الجمعة، كما ودعنا أخاه إبراهيم.. لقد انطفأ ذلك النور، بعدك أيها الشيخ، وأنّى لنا رؤية تلك المودة وأين سنبصر وجها مستبشرا منيرا مثل وجهك، وأستطيع الآن بعد رحيلك أن أقول- حزينًا- لقد قُطع حبل ذلك الجيل الفذّ الجاد العامل بدون كلل لخدمة الناس وانتهى عصر تلك القامات الطوال من آبائكم وآبائنا.. رحمك الله وأسكنك واسع جناته التي وصفها جلّ في علاه: "عرضها كعرض السماوات والأرض".. والسلام عليك.

تعليق عبر الفيس بوك