الصراع الديموغرافي بين الصين والهند

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

وفقًا لتقرير للأمم المتحدة صدر مؤخرًا، فإن الهند تفوقت على الصين في تعداد السكان لتصبح الأولى عالميًا؛ إذ تجاوز عدد سكان الهند مليارًا و428 مليونًا و600 ألف نسمة، وهو أعلى من عدد سكان الصين والبالغ مليارًا و425 مليونًا و700 ألف نسمة، وهذه التقديرات إلى منتصف العام الجاري 2023.

المفاجأة الكبرى في هذا التقرير، هي أن نسبة من هم دون الثلاثين من العمر في التعداد السكاني للهند حاليًا يصلون إلى ما يقارب الـ700 مليون نسمة؛ أي ما يقارب نصف إجمالي عدد السكان تقريبًا. والمفاجأة الثانية في التقرير، توقُّع تفوُّق الهند على الصين في تعداد السكان عام 2050؛ حيث يُقدِّر التقرير أن يصل عدد سكان الهند إلى مليار و660 مليون نسمة، مقابل توقعات بتقلص عدد سكان الصين في العام نفسه إلى مليار و310 ملايين نسمة.

اختلاف الثقافات بين الشعوب والأعراق المكونة لكل من الصين والهند بكل تأكيد كان له الحضور الكبير في هذا التفاوت، يضاف إليه بلا شك سياسات كل دولة وأطوارها الزمنية والتي أثرت بلا شك في تقليص عدد السكان هنا وزيادتها هناك.

فسياسات الصين الديموغرافية هي استيعاب سكانها جميعهم، لهذا قننت المواليد بطفل واحد لكل أسرة، وهذا التقنين يعني إنفاق الطفل على والديه ورعاية أسرته مستقبلًا وفق ثقافة التكافل الأسري في الصين، ولكن هذا التقنين أتى بمثالب أخرى غير محسوبة ربما، منها الإثقال على خيارات الأسرة في جنس الجنين وكذلك الإثقال بالأمنيات من قبل الأسرة على الطفل المولود وتدخلها الكبير في تقرير تفاصيل حياته التعليمية والعملية والزوجية كذلك، بينما ترى الهند في زيادة السكان وعدم تقنين المواليد فرصة لتشجيع أبنائها على الغربة والهجرة إلى بقاع الأرض لكسب العيش والإنفاق على أسرهم وذويهم لاحقًا، وخدمة بلدهم في الاقتصاد والمكانة والنفوذ كذلك، كموروث ثقافي للهنود.

وفي المقابل تلجأ الصين اليوم الى إلغاء التقنين واستغلال الانفتاح العالمي لتصدير موجات من أبنائها الى دول العالم كمستثمرين وكشركاء تجاريين للدولة. لهذا نلاحظ الانتشار الكبير للشركات الصينية العملاقة حول العالم، كما نلاحظ الانتشار الكبير للتجار الصينيين والمجمعات التجارية الصينية الضخمة حول العالم كـ"إستراتيجية صينية" لتسويق منتجاتها وتحقيق السبق التجاري والانفتاح الإيجابي على العالم.

ومن القصص التي سمعتها خلال فترة عملي بالجزائر (1984- 1988)، أن الصين عرضت على حكومة الاستقلال بالجزائر عام 1962 تسكين 5 ملايين صيني في الصحراء الجزائرية، على اعتبار أن الجزائر دولة قارة بمساحتها (2.5 مليون كم مربع) مقابل 9 ملايين نسمة هم مجموع عدد سكان الجزائر عام الاستقلال. وكانت الفكرة المعروضة من الصين هي قيام تلك الجالية بملء الفراغ السكاني الكبير وبعيدًا عن حواضر المدن، وقيامهم بأعمال زراعية وتنموية لتطوير المناطق الصحراوية ومساعدة الناتج القومي الجزائري الفتي بسواعد مهنية وأمن غذائي، ولكن في المقابل فإنَّ هذا التوطين يعني التكاثر الكبير وحقوق المواطنة مستقبلًا، وهو ما كان سببًا رئيسًا ومقنعًا لرفض الحكومة الجزائرية لعرض الأصدقاء الصينيين رغم إلحاحه وإغرائه حينها. بينما اعتمدت الهند تعزيز ثقافة الهجرة التاريخية لأبنائها وبنت عليها استراتيجيات كبيرة لأسباب سبق شرحها.

دولة مثل الفلبين يبلغ عدد المهاجرين منها حوالي 20 مليون مواطن إلى جميع أنحاء العالم، وتُشكِّل تحويلاتهم النقدية السنوية المصدر الثاني لدخل الدولة، وهو رقم كبير جدًا مقارنةً مع دخول الدول عادة، وبهذا تُشكل الهجرة والتشجيع عليها سياسة ثابتة للفلبين واستغلالًا أمثل لاستثمار الموارد البشرية (رأس المال البشري) في التنمية الاقتصادية والاجتماعية معًا.

الغرب من أكثر البلاد والشعوب معاناة من التناقص السكاني التدريجي الحاد، لهذا يعمد الغرب في تفاصيل استراتيجياته للحروب وتأجيج الأزمات وتهيئة الظروف المعيشية الطاردة في جغرافيات العالم، بقصد تهجير العقول أولًا وتهجير الأيدي العاملة الرخيصة من البلاد المُستهدفة، وهذا ما رأيناه في أوضاع أقطار عربية حلت بها الحروب والكوارث المفتعلة مثل: العراق وسوريا واليمن.

المجتمعات الغربية- وكما هو معلوم- تعاني من الشيخوخة وغياب حاد لعنصر الشباب وقوة العمل؛ الأمر الذي يدفع بهذه البلدان مُكرهةً إلى فتح أبواب الهجرة، رغم تسويقها ذلك تحت شعار الإنسانية والتعايش، فقد وجد الغرب أن نقل التكنولوجيا والصناعات إلى مناطق ذات عمالة رخيصة مثل الصين وتركيا والمكسيك وغيرها أجبرهم- تحت وطأة جني المال والكسب السريع- على التخلي عن أسرار تصنيع خطيرة وكثيرة، بعد أن كانت حكرًا لأبنائهم وفي بلدانهم فقط؛ حيث عمدت بعض تلك البلاد المُستقبِلة للاستثمارات الصناعية الغربية إلى توطين تلك الصناعات بفعل توفر بُنية حرفية وطبقة علمية معتبرة، وذلك عبر التقليد أو عبر علم الهندسة العكسية. ولم يتمكن الغرب من السيطرة على وسائل الإنتاج والتقليل من العمالة عبر وسائل التقنية الحديثة والذكاء الاصطناعي، ففي كلا الحالتين ما زال وجود العنصر البشري ضروريًا، وما زالت مخاوف البطالة والتسريح حاضرة في أذهان حكومات الغرب وشعوبها ومن لف لفهم في العالم، فعواقب البطالة والتسريح كبيرة وكثيرة جدًا، وأخطر بكثير من الإنفاق المباشر على العمالة وتوظيفها.

قبل اللقاء.. العالم اليوم يكتشف أهمية رأس المال البشري ويتباهى بعدد السكان كقوة عمل وإنتاج وتنمية واستثمار، بينما الغرب اليوم بين نارين، نار الفناء الاقتصادي وتراجع هيمنته عالميًا، ونار زوال ثوابته وموروثه الثقافي والقيمي تدريجيًا بفعل الهجرات المُنظَّمة، لهذا نقول ونؤكد أن العالم الجديد يتشكل من الشرق.

وبالشكر تدوم النعم..