استراتيجية الغرب للإجهاز على السودان

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

يعتقد الكثير منا بأن السودان استقل عن بريطانيا والتاج الملكي المصري عام 1956، بعد ثورات وانتفاضات شعبية خاضها أبناء السودان لنيل استقلال بلادهم وتقريرهم لمصيرها، ولكن الحقيقة والواقع أن السودان خرج من مستنقع الاستعمار المباشر في العام المذكور، ليدخل في نفق المؤامرات الغربية التي حيكت له في حلقات متصلة ووثيقة، يكاد لا يخرج من أزمة إلا وسقط في أزمة أكبر وأعمق.

فالمتأمل في تاريخ السودان الحديث- فلنقل منذ عام استقلاله- يرى تعاقب الحكومات الوطنية على حكمه، من الجانبين المدني والعسكري، بالتناوب والتراضي أحيانًا وبالقوة أحيانًا أخرى، وفوق كل هذه الجهود والاجتهادات الوطنية التي لا يشك فيها عاقل لإنقاذ السودان والنهوض به واستغلال خيراته الوافرة، نرى السودان يتراوح ما بين خيارات السيء والأسوأ ة، ويتباكى أهله على الدوام على السيء الماضي بعد أن تكويهم حالات الأسوأ في مراحل أخرى وهكذا، والعبارة الشعبية الأشهر التي يتداولها السودانيين في وصف حالات بلادهم هي ما قاله أحد العوام للرئيس العسكري إبراهيم عبود بعد الإطالة به في انتفاضة شعبية، حين وجده يتسوق بسوق شعبي بمدينة أم درمان؛ حيث قال مخاطبًا الفريق عبود: "ضيعناك وضعنا وراك".

أدخل السودان الحديث عددًا من المفاهيم والأساليب والقواعد السياسية في "البورد" السياسي العربي المعاصر، مثل: الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية، والانتفاضات الشعبية على الحكومات العسكرية، ومجالس الحكم الجماعي التوافقية والمسماة برأس الدولة في المراحل الانتقالية التي تعقب كل حالة تغيير. واتسمت أغلب التغييرات السياسية في تاريخ السودان الحديث بالكثير من السلمية والتسامح، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى سمات الشخصية السودانية وقيمها الأخلاقية الرفيعة، والتي نسجت منها الكثير من قيم الدولة وتسييرها لاحقًا.

الحقيقة أن السودان وقع تحت مجهر ومطرقة المؤامرات الغربية منذ عام استقلاله، وهذه المؤامرات جعلت السودان- سلة غذاء العرب- يئن تحت وطأة الديون والفقر والمديونية، وصولًا إلى شرعنة الفساد المالي والإداري والذي أنهك البلاد والعباد وأفقدهما بوصلة الاهتداء إلى المخرج والإدارة السوية للبلاد. يُحارب الغرب السودان لأنه بلد نموذجي في تعدد أعراقه وثقافاته وهوياته الكبرى والفرعية، فبرغم تلك الفسيفساء العجيبة إلا أن الهوية الجامعة للسودان اليوم هي العروبة والإسلام رغم عدم التصريح بهما، ويُحارب الغرب السودان لأنه مستودع الأمن الغذائي العربي بجدارة، والغرب ألد أعداء الاكتفاء والأمن الغذائي لأي دولة خارج جغرافيته، فالتبعية هي السلاح الأمضى للاستعمار الجديد.

يُحارب الغرب السودان بهوياته الفرعية ونسيجه العرقي تحت شعار حقوق الأقليات، بينما يسوق النفاق الغربي بأن الديمقراطية تعني خضوع الأقلية للأكثرية، والغريب أن هذه الأقليات ما ان تنجر خلف الغواية الغربية وتصدق تلك المقولة الملحونة سرعان ما تعود إلى رشدها وتجد نفسها في أحضان الهوية الكبرى ومركزها الخرطوم، وانفصال جنوب السودان أكبر دليل على هذا. فحين انتهى تأثير سكرة الانفصال وحضرت فكرة بناء الدولة الوليدة في الجنوب، بانت الفواجع وظهرت التناقضات تباعًا، بدءًا من اكتشافهم بأن دولتهم الوليدة مظلومة جغرافيًا ولا منافذ بحرية لها، وخياراتها محصورة في العودة إلى المركز بالخرطوم أو أن تبقى تحت رحمة كينيا والاتفاق معها على اعتبار ميناء ممباسا والذي يبعد 200 كلم، منفذًا بحريًا لدولة جنوب السودان، حتى ظهرت مشكلة الهوية اللغوية في دولة الجنوب وبقيت ما تُسمى بـ"عربية جوبا" هي لغة التخاطب الجامعة والمعبرة لأقوام وقبائل دولة الجنوب، ولم تنطفئ نيران تلك المحن على الدولة الوليدة حتى اشتعلت حرب النفوذ بين المكونات القبلية الكبرى للدولة الوليدة (الدنكا، الشُلك، والنوير) ليحتكم الجميع لاحقًا إلى حكومة الخرطوم ويعترفوا باتفاق الخرطوم لوقف الاقتتال بينهم. والأغرب من كل هذا هو سعي حكومة دولة جنوب السودان إلى الانضمام إلى جامعة الدول العربية وهم من طالبوا بالانفصال بزعم هيمنة العرب والاستعمار العربي لهم!! 

الوضع في السودان اليوم ليس محليًا ولا يُشبه ما سبقه من تغييرات وأحداث، فوضع اليوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا وعضويًا بالحراك العالمي الذي أوجدته وخلقته الأزمة الأوكرانية وتداعياتها العالمية سياسيًا واقتصاديًا، وهي أحداث شبيهة بحدث انفجار مفاعل فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011م، فهذا الانفجار أدى بالنتيجة إلى هوس وسعار الناتو للإجهاز على الدولة الليبية ونهب ثرواتها وأصولها بعد ذلك، لتعويض الأضرار المادية الناتجة عن أنفجار فوكوشيما وما تسبب به على صعيد الاقتصاد الياباني والأوروبي؛ حيث قُدرت الخسائر الناجمة عن ذلك الانفجار بمبلغ يفوق 350 مليار دولار، توزعت على تعويض الأضرار في اليابان وسحب أصول يابانية من المصارف الغربية، وتوقع بانحسار الاستثمارات اليابانية في الغرب لمدة لا تقل عن خمسة أعوام نتيجة ذلك، إضافة إلى احتضار الاقتصاد اليوناني وإشراف اليونان على الإفلاس والتداعيات المتوقعة لذلك على الاقتصادات الأوروبية، فكانت ليبيا هي الضحية والمُنقذ للاقتصادات الأوروبية حينها.

السودان اليوم يقع في ذات الظروف المشابهة للحالة الليبية، فقد وجد فيه الغرب- وعلى رأسه أمريكا- المُنقذ والضحية الجاهزة في آن واحد؛ حيث يمتلك السودان مخزونًا كبيرًا من الذهب والمعادن النفيسة والتي تُشكل حالة مثالية للبنوك المركزية في الغرب، إضافة إلى إمكانية تقسيم السودان وإعادة تشكيله على شكل أقاليم مستقلة قد يجمعها حكم كونفدرالي مركزي في الخرطوم، ولكل إقليم حرية التصرف في سيادته وثرواته، وقد تكون حالة كردستان العراق مثالية للتطبيق في السودان القادم. 

من يرى التحالفات اليوم على أرض السودان يُدرك بأن الأمر لم يعد كسابقيه من أحداث وتغييرات تنتهي بتسويات داخلية وتوافق إقليمي؛ فالأمر اليوم عبارة عن اقتتال دولي على السودان ونقل حالة أوكرانيا إلى أفريقيا مع بعض الفروقات، ولكن الهدف الاستراتيجي واحد وهو تعويض خسائر الغرب السياسية والاقتصادية بأي ثمن وفي أي مكان، خاصة إذا كان هذا المكان السودان بموقعه وثرواته.

الهوس الغربي على السودان اليوم يأتي لتعويض خسائرهم الفادحة ومخططاتهم الفاشلة في سوريا واليمن وإيران وتعافي العراق وليبيا على الطريق، وبالتالي لا نستبعد أن نرى ضراوة وجسامة الأحداث تتعاظم في الصراع السوداني السوداني، ما دامت الحروب بالوكالة كالعادة والنظام العربي على دكة المتفرجين.

قبل اللقاء: من يعتقد وينكر نظرية المؤامرة على الأمة؛ فهو طرف في المؤامرة وأداة لها بوعي وبلا وعي.

وبالشكر تدوم النعم.