متلازمة عقلية "فيرديناند"

 

 

أنيسة الهوتية

سنتحدث قليلًا عن فيرديناند قبل أن نتحدث عن متلازمة عقليته.. "فيرديناند" ثور مصارعة أصيل غير هجين، أي أنَّ جينات ثيران المصارعة فيه ظاهرةٌ بقوة شديدة من النخاع إلى النخاع، وهنا نتحدث عن الجينات المظهرية قبل كل شيء، ثم يليها ما تبقى مما يرث المخلوق عادةً من والديه ابتداءً من الشكل الخارجي، إلى تكوين البنية الجسدية الباطنية، ثم الطباع والتصرفات الخارجية المتحكم بها من قبل هذه الجينات كليًّا.

إلَّا أنَّ بعض المخلوقات "تشطح" عن أوامرها، و"شطحانها" هذا أحيانًا يجعلها شاذة تمامًا وغير مقبولة، وأحيانًا متميزة تمامًا وجذابة، والنهاية تلك تعتمد على نوع "الشطحة" التي خرج بها هذا المخلوق عن جيناته المسؤولة عن أطباعه وعقليته التي متوقعٌ منها ماذا يقدم.

و"فيرديناند" عقليته رفضت أن يكون ثور مصارعة، رغم أنه ثور مصارعة من النوع الأصيل النادر جدًّا، واتباعًا لعقليته التي كان إرضاؤها إرضاءً لروحه التي كانت تسعى للسلام والطمأنينة والراحة خاض غمار مغامرات كثيرة هروبًا من واقعه الذي لطالما كان يركض وراءه تذكيرًا له بأنه ثور مصارعة وليس أي مخلوق آخر.. وعليه أن يصارع ويصرع فقط ولا شيء آخر، وإن لم يفعل فسيكون قطعة لحم شهية على مائدة أحد مصارعي الثيران!

فخلقت عقليته هذه أزمةً كبيرةً حوله، فمصارعي الثيران وتجار ثيران المصارعة كانوا يسعون لامتلاكه وهو منهم يهرب، وبقية ثيران المصارعة كرهوه واتهموه بالجُبن وهو ليس كذلك؛ بل كان يستطيع أن يصرع عشرةً منهم بحجمه وخلاصة جوهره كثور مصارع بالفطرة! إلا أنه على كل تلك الجينات المسؤولة عنه، والفطرة التي خُلق عليها كانت بداخله فطرة أخرى وهي حب الزهور، والطبيعة، والهدوء، والراحة، والسكينة، ومشاهدة التلفاز، واللعب، والمرح، والضحك، كأي حيوان آخر ولم يهمه رأي الآخرين فيه مهما اتهموه بالجبن، وكذلك لم يهمه ما يتأمل الآخرين منه مهما اتهموه بالفشل، وما كان يهمه فقط هو الوصول إلى المكان الذي يشعر فيه بالاستقرار والأمان والطمأنينة!

هذه العقلية هي العقلية المسالمة التي تعيش لحظات حياتها في سلام داخلي مع نفسها، وتفِز لعون الآخرين مهما كانوا سيئين أو جيدين، دون انتظار الرد على ما قدم لهم.. مع عدم الاهتمام بالانتقادات ونظرة المجتمع أو حكمهم عليه بسوء، فإن ثقته عالية في نفسه ما دام أنه لم يبتدر أي فعل متعمَّد لإيذاء أي مخلوق أو تعريضه لخطر.

ولو بحثنا في البشرية عن أناس بعقلية "فيرديناند" سنجد أنهم أشخاصٌ يعيشون في فقاعات خاصة تحتوي على أكسجين خاص بهم، يتسنشقونه لتنقية أفكارهم ومشاعرهم، وهما المؤثران الرئيسيان لإنجاح عملية السلام الداخلي التام بينهم وبين أنفسهم، ليسوا متقوقعين أو انطوائيين، إنما هم مليئون بالحياة والبهجة والفرح والسعادة والسرور أينما حضروا؛ لأن عيونهم المبصرة تنظر من أرواحهم إلى روح الحياة الإيجابية وليس إلى أنفس المخلوقات.

ستراه في صورة إنسان مثقف بالفطرة لا يثقل في نقاشاته مع أحد لإثبات نفسه، وفي صورة امرأة جميلة تمام الجمال غير متفاخرة ومرائية ومغترة بما أوتيت، وفي صورة إنسان أغناه الله من ماله ولا زال يعيش حياةً بسيطة بلا ترف، وفي صورة إنسان منجز هداف بارع في الحياة، لكنه لا يتحدث أبدًا عن نفسه! وفي صور كثيرة متعددة غير قابلة للاختصار.

وإن اختصرناها سنجدها في صورة: إنسان آمن بقصر الحياة فقرر عيشها بأمان وسلام ورضا بنفسه وبمن هم حوله، دون البحث عن الكمال في نفسه أو في غيره، لأن الباحث عن الكمال لن يجده، وسيعيش وحيدًا في رحلة بحثه، ثم يموت وحيدًا.