أثاث "بيت الضيافة" يصل من مسقط لصلالة

 

د. عبدالله باحجاج

بوصول الأثاث، يعني الإغلاق النهائي لـ"بيت الضيافة"، الذي أُقيم في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، في العاصمة مسقط، في بداية حكم السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- واستمر طوال هذه العقود، تقديرًا للاعتبارات المالية الاجتماعية والإنسانية، وثقل الجغرافيا الظفارية، وبُعدها عن تمركز الخدمات الحكومية المختلفة بأكثر من ألف كيلومتر، وبفاتورة سفر بالطيران قد تصل لنصف مرتبات بعض المواطنين، وذلك على اعتبار أنَّ هناك الآلاف من المواطنين مرتباتهم ومعاشاتهم بين 200 و325 و400 ريال، فهل الإغلاق يعني انتهاء مسوغات استمرارية بيت الضيافة أم أنه يدخل في مسألة ترشيد الإنفاق؟

المسوغات الاجتماعية والإنسانية تزداد وتتعمق في معضلة تلكم المرتبات، ويظل الخيار الآخر قائمًا.. وهنا التساؤل عن المبلغ الذي كان يُنفق على بيت الضيافة، وهل هو بذلك الحجم الكبير الذي يوازن حجم الضرر الاجتماعي والإنساني؟

مهما كانت منظومة الحماية الاجتماعية الحكومية للفئات الأكثر تضررًا من السياسات المالية القاسية، سواء في صورة مظلة الحماية الاجتماعية التي تكثر حولها الأحاديث في ظل غياب المعلومات الرسمية عنها حتى الآن، فإن الاختلالات ستظل قائمة بحجم اختلالات تلكم المرتبات والمعاشات، وهذه قضية غائبة أو مُغيَّبة حتى الآن، ويؤسسها فكر يقود طبيعة المرحلة في بلادنا، وتعبِّر عنه السياسة المالية للدولة بخيارات دالة عليه، وقد تناولنا قضية مدى ملاءمته، تنظيرًا وتطبيقًا، من عدمه في بلادنا، وهو الذي يقف وراء تجفيف منابع الاعتبارات الاجتماعية والإنسانية التي وراؤها لو القليل من المال العام كبيت الضيافة مثلًا.. فهل انتهت حقبة الاعتبارات الاجتماعية والإنسانية في ظل سياسات الترشيد؟

نعلم أن نهضتنا الحديثة تأسست على مثل هذه الاعتبارات الإنسانية، وهذا لا يعني أننا ضد الإصلاح؛ بل العكس، هناك إصلاحات لا يُختلف عليها، مثل إغلاق أبواب ونوافذ الاستنزاف المالي للدولة، وقد حققت فيه الحكومة نجاحات كبيرة، ولم يُغلق هذا الملف، وما كُشف مؤخرا عن استنزاف الطيران العماني لنحو 1.5 مليار ريال منذ عام 2010 حتى عام 2021، يدفع إلى المساءلة والمحاسبة، في ضوء ما قاله معالي المهندس وزير النقل والاتصالات وتقنية المعلومات في لقاء تلفزيوني، إن الطيران العماني يمكن أن يربح "إذا ما قمنا بالعمل بطريقة صح"، وقد شدد على الربح بثقةٍ كبيرة، مشيرًا إلى أنه بحث هذه القضية بعمق، وامتنع عن سرد التفاصيل بحجة عدم اتساع الوقت لها. وهنا التساؤل: لماذا طوال العقود الماضية لم يكن العمل صحيحًا؟ وكما هو معلوم فقد تعاقب على شركة الطيران عدة وزراء!

كما إن هناك إصلاحات تحتاج لدراسات عميقة قبل اتخاذ القرار فيها، وأخرى تحتاج لعوامل مسبقة، كأن يسبق التطور الاقتصادي عملية سحب حقوق وامتيازات اجتماعية بقرار إداري مثل إغلاق "بيت الضيافة"، وإحالة الآلاف الى التقاعد الإجباري دون دراسة أوضاعهم المالية والاجتماعية، ويبدو أنَّ هناك نظامًا برجماتيًا خاليًا من الروح الاجتماعية مُعد للتطبيق، ويُطبَّق بصورة فورية، وغير معني بردود الأفعال والسيكولوجيات الاجتماعية. صحيحٌ أن الجهات التنفيذية قادرة على تطبيقه، لكن ستترك وراءها سيكولوجيات مُحتقِنة ومتراكمة، وسيكون لها انعكاسات على مستقبل العلاقة بين الحكومة والمجتمع، وهذه قضية لا تحظى بالاهتمام المُستحق في استراتيجية الإصلاح المعاصرة، وفق ما طُبق منها، حتى الآن على الأقل.

ووصول الأثاث لمخازن مكتب محافظ ظفار يعني فشلنا في زحزحة قناعة الإغلاق، والإبقاء على بيت الضيافة، والفشل ليس منسوبًا لكاتب المقال فحسب، وإنما لعدة شخصيات من بينها شيوخ وأعضاء مجلس الشورى. فحسب مصادرنا، فقد وُجِّهَت رسائل من شيوخ لجهتين في الدولة، وهنا الفشل الجماعي، وكم نتطلع الآن لمعرفة الحيثيات التي بُني عليها قرار الإغلاق، وقد قيل لنا من مصدر رسمي بُعيد مقالنا "إغلاق بيت الضيافة بمسقط" والمنشور بتاريخ الخامس من فبراير 2023، إن البيت يستخدمه المُستحِق وغير المُستحِق، وهذا مردود عليه؛ لأن المسؤولية تتحملها هنا الإدارة وليس المواطن، فما ذنب معاقبة المواطن المحتاج بخطأ إداري؟ وبعد فترة رجع لنا، وقال إن وزارة الصحة توفِّر سكنًا لمرافقي المرضى المحولين لمستشفياتها في مسقط، وهنا أيضا قصور واضح في فهم أوضاع الواقع، وأحوال المواطنين.

فهل تتم التحويلات بسهولة وبديناميكية وفي الأوقات المناسبة؟ السبب يرجع الى الضغوط القوية على المركزية الصحية المتقدمة في مسقط، لذلك يلجأ المواطنون الى الضغط على محيطهم الأسري والعائلي لتوفير مبالغ مالية للاطمئنان على مرضاهم في المستشفيات المسقطية الخاصة المتقدمة.. وحتى لو توفّر السكن للمرافق في الحالات المُحوَّلة، فهناك حالات تقتضي مرافقة أكثر من شخص في الأسرة. وهنا يُعد "بيت الضيافة" في مسقط متنفسًا ماليًا وسيكولوجيًا للمواطنين في ظل أوضاع الحال ومآلات الأحوال التي أشرنا سابقًا إلى ملمح من ملامحها الدرامية.. إلخ.

فعلى ماذا الإصرار على الإغلاق وهناك حاجة اجتماعية إلى البيت؟ هل بسبب المال؟ وكم يصرف من موازنة الدولة مقارنة ببيوت الضيافة الحكومية الأخرى، ومقارنة باستنزاف مسارات أخرى؟ وإصرارنا على بقاء "بيت الضيافة" نابع من علمنا بالحاجة الاجتماعية والإنسانية إليه، وأنه من روافد مشاعر وعواطف المواطنة، فيا حبذا لو ركزت الحكومة على المسارات الكبيرة التي تستنزف الثروات في البلاد أولًا، وترك حل الإصلاحات الصغيرة ذات التأثير الاجتماعي المباشر لسياقات التطورات الإيجابية الاقتصادية واللامركزية، وهذه منهجية الحل المثالي في بلادنا.

نقفُ في تموقعات اجتماعية تكشف لنا أهمية بقاء "بيت الضيافة" مع إعادة تنظيمها وليس إغلاقها، كما كانت لنا تجربة أسرية معها، وهي التي تقف وراء دفاعنا عنها، لذلك نعلم مصلحتها الاجتماعية أكثر من ساهم أو اتخذ قرار الإغلاق. وهنا نكرر قول قلناه سابقًا، أن المقتدرين من المواطنين لن يسكنوا في هذا البيت للضوابط التنظيمية المُقيِّدة لحريتهم، مثلًا وقت الخروج والدخول.. إلخ، ولن يلجأ إليها إلّا المحتاج فعلًا؛ سواءً لمتابعة حالة صحية أو تخليص ومتابعة مصلحة إدارية أو قانونية مركزية..

وداعًا بيت الضيافة.. فقد قدمت خدمات جليلة للمواطنين طوال أكثر من خمسة عقود ماضية، وساهمت في حل إشكالية الغربة التي كان يشعر بها الكثير من المواطنين عندما يتجهون للعاصمة مسقط، والآن عليهم دفع الثمن مضاعفًا.. لكن من أين؟ والحديث هنا عن أصحاب الدخول الضعيفة في حقبة الجبايات وعودة العصر الذهبي لثروات بلادهم السيادية كالنفط والغاز، دون أن يكون لها انعكاسات مباشرة وآنيّة على حياتهم الجديدة حتى الآن.