هل يفقد الدولار عرشه؟!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

تربع الدولار الأمريكي، كملك متوج على عرش العملات الدولية منذ اتفاقية "بريتون ووردز" الشهيرة عام 1944، والتي شاركت فيها أكثر من 40 دولة؛ إذ اعتمدت العملة الخضراء نظامًا للعلاقات النقدية العالمية بلا منازع، وذلك بسبب بزوغ نجم أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى، وتم وضع الدولار معيارًا واحدًا لتسوية العملات وتخزين الاحتياطات النقدية في العالم.

وقد جرى الاتفاق بين الدول الموقعة على ربط الدولار بالذهب، فقد كانت قيمة الأونصة الواحدة من الذهب تساوي 35 دولارًا أمريكيا. وخلال الحروب المُكلِّفة التي خاضتها أمريكا في الخارج- وعلى وجه الخصوص حرب فيتنام والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، واستنزاف الموارد في صناعة السلاح- قرر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون فجأة وبدون مقدمات الانسحاب من تلك الاتفاقية النقدية من طرف واحد، وتم فك الارتباط بين الدولار والضمان العالمي والمتمثل في الذهب، وأصبح بالإمكان طباعة العملة الأمريكية دون أي ضمانات تذكر، وترتب على ذلك انخفاض قيمة الدولار بشكل حاد وغير متوقع، وكذلك خسائر فادحة وبالجملة لمعظم اقتصاديات دول العالم النامي التي كانت تحتفظ بالدولار في بنوكها المركزية.

ومنذ 1971، وهو تاريخ تعويم الدولار، أصبحت هذه الأوراق المالية تُطبع بأوامر من البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة الأمريكية، دون حسيب أو رقيب، فتتولى وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي تنفيذ الأوامر، وتزويد البنوك العالمية في الداخل والخارج بالمليارات من العملة الخضراء التي لا تكلف الدولة إلا قيمة الأوراق البيضاء، فتكلفة طباعة دولار واحد أو ورقة بقيمة 100 دولار، متساوية. وإذا كانت دول العالم قاطبة تعتمد على الاحتفاظ بمخزون من الذهب وسلة من العملات الصعبة الأخرى مثل الدولار واليورو واليوان والروبل وغير ذلك من العملات، للمحافظة وضمان العملة الوطنية من الانهيار، فعلى الجانب الآخر من الأطلسي، تعتمد العملة الأمريكية بالدرجة الأولى على القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة؛ باعتبارها الاقتصاد الأول في العالم، وقبل ذلك كله، تعتمد على النفوذ الدولي للقوة الناعمة والصلبة للحكومة الأمريكية الذي جعل من أمريكا القوة العظمى، خاصة بعد انهيار المنظومة الشيوعية المعروفة بحلف وارسو. وبالفعل أصبح البيت الأبيض يسيطر على شعوب العالم وحكوماتها الضعيفة التي هي في الأساس من صنع النظام الرأسمالي الاستعماري.

من هنا بدأت مشكلة الدولار الأمريكي تتعاظم وتخرج عن السيطرة، والسبب المباشر هي المديونية الأمريكية التي تجاوزت هذا العام 2023 أكثر من 31 تريليون دولار، في الوقت الذي بلغ الناتج المحلي الأمريكي أقل بكثير من المديونية؛ فالمصروفات المليارية في الإنفاق الداخلي، وكذلك تكلفة الحروب والمساعدات الخارجية لكسب ود الأنظمة الدكتاتورية والهيمنة على قراراتها السيادية، كانت وراء زيادة هذه الديون التي قد لا تقدِر أمريكا في يوم ما على سدادها للمستثمرين في السندات الحكومة الفيدرالية. ومن المفارقات العجيبة أن تأتي الصين الشعبية- العدو والمنافس- كثاني أكبر مستثمر بعد اليابان في تلك السندات بقيمة تقترب من تريليون دولار أمريكي، والتي أدت فوائدها السنوية إلى إرهاق الاقتصاد الأمريكي، وليس ببعيد أن تكون من أسباب الانهيار الشامل لهذه الإمبراطورية.

إن من أهم التحديات التي تواجه العملة الأمريكية في الوقت الحالي، كثرة فرض العقوبات الاقتصادية على معظم دول العالم وكذلك الشخصيات والكيانات السياسية التي تخالف أمريكا في معتقداتها السياسية، فقد أصبحت هذه العقوبات بلا معايير واضحة، خاصة ضد روسيا والصين وايران. وهذه السياسات غير المدروسة، عجّلت بتشكيل تحالفات ضد أمريكا شرقًا وغربًا؛ بل ومن أقرب حلفائها بالأمس؛ إذ وافقت المملكة العربية السعودية لأول مرة في تاريخها على مناقشة استخدام عملات أخرى في بورصات النفط العالمية بدلًا من الدولار الذي هو العملة الوحيدة لشراء النفط في دول المنتجة للنفط "أوبك" حتى هذه اللحظة.

والأخطر من ذلك كله على مستقبل الدولار هو ما يعرف بتحالف "بريكس" الذي يضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا والذي يهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد عملة بديلة للدولار الأمريكي في التعاملات التجارية عبر العالم. وبالفعل بدأت هذه الدول تستخدم عملاتها المحلية في التجارة البينية بين هذا التجمع الكبير من الدول الواعدة بعيدا عن الدولار.     

يبدو لي أن الوقت قد حان لتشكيل عالم جديد يعتمد على عملات وطنية متنوعة وليس فقط الدولار الأخضر الذي أرهق البلاد والعباد ويفتقد إلى الضمانات الكافية لصموده في المرحلة القادمة والتي قد نجد فيها عملات رقمية متعددة.

وفي الختام.. يجب تذكير الجميع بأنه لا يوجد بديل جاهز ومضمون للدولار في الوقت الحالي إلا إذا انهارت العملة الأمريكية تلقائيًا، بسبب الضغوطات الكثيرة التي تواجه اقتصادها وخاصة ارتفاع الديون الخارجية بشكل قياسي وغير مسبوق، وبالتالي إعلانها للإفلاس، وهذا الأمر قد يبدو بعيد المنال لكون أن الصين الخاسر الأول في مثل هذا السيناريو الكارثي الذي قد يجر العالم كله إلى الانهيار بسبب الارتباط الوثيق بين البنوك والبورصات الدولية التي تعتمد في ودائعها ثم فوائدها على حي المال في نيويورك، وعلى الرغم من ذلك كله قد تشهد الأسواق الدولية ولادة دولار رقمي ومشفر بديل للعملة الخضراء الورقية، يصدره مجلس الاحتياطي الفيدرالي في المستقبل، وذلك لإنقاذ أمريكا من السقوط.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري